أشفَقَ علي صديقي محمد، الذي يعمل مراسلا لإحدى الإذاعات الدمشقية، لأني عاطلٌ عن العمل منذُ ما يقارب الثلاث شهور، وجاء ليبشّرني بأنه رتّب لي لقاءً مع مدير البرامج في إحدى التلفزيونات السورية، ليتعرّف عليّ وأتعاقد معه وأبدأ بالعمل في قناته.
بصراحة فرحتُ كثيراً ليس لفرصة العمل تلك بل للهفة صديقي عليّ، كان اللقاء مقرراً في التاسعة مساءً داخل مكتب المدير في القناة، اتّصل بي صديقي عصر ذلك اليوم يذكّرني بمقابلتي، ويحذّرني من التأخر، وألا أُسوِّد له وجهه أمام معالي ذلك المدير، حسناً جداً، ارتديتُ ثياباً تليق بهذا اللقاء، شعري لم أسرّحه لا يميناً ولا يساراً، تركته كما هو، وتدرّبتُ على الهمهمة وكلمات التقبّل “اممم- صحيح- تمام” وهز الرأس لأني أعلم أن المدير سيتحدّث كثيراً.
كانت الساعة تقارب الثامنة والنصف حين ركبتُ باص “المهاجرين-صناعة”، جلستُ مقابلَ امرأة أظنُّ أنّها في الثلاثين من عمرها، حنطية اللون ذات شعر شديد السواد، حوراء العيون أكاد أستشرف من خلالها مستقبل الكون كلّه، عطرها أثملني وقتل كل الركّاب والسائق أيضاً، أظنّه “شاليمار”، هنا نسيتُ كل شيء، نسيتُ موعدي، صديقي، المدير، حتى اسمي بالكاد أتذكّره.
لحظات قليلة، ويخرج صوت ضرب على الكمنجات والتشيللوهات من مذياع الحافلة، عرفتُ فوراً أنّها أغنية محمد عبد الوهاب “من غير ليه”، حينَ نقول عنها “أغنية” حقاً نقلّل من شأنها، إنها ملحمة، رواية كُتبت بماء العيون، مجموعة قصصية مقسّمة على عدة “كوبليهات” أبدع شاعرنا “مرسي جميل عزيز” في كتابتها، انتهت المقدّمة الموسيقية الوهابية الممزوجة بالنكهة الغربية، لتبدأ المقدّمة الكلامية للملحمة “جايين للدنيا ما نعرف ليه؟” مروراً بـ “زي ما جينا جينا، ومش بـ ايدينا”، هنا تحسّستُ الحيرة في وجه كلِّ الركّاب، وخاصةً تلك الأميرة، لم أدرِ لماذا علماء مصر الأفاضل كفّروا الشاعر بهذا الافتتاح، حقاً أشفق عليهم، أيبدأ الشاعر مباشرةً في التغزّل بمحبوبته؟ ألا يحتاج رمشها هذا التمهيد الجميل الحائر؟ لأنه وصل بعد ذلك الكفر كما يصفون الصحابة الكرام إلى “زي ما رمشك خد لياليا”؟
عندما انتهى موسيقار الأجيال من الكوبليه الأول، وبدأ بالثاني “ياللي زماني رماني في بحر عينيك ونساني وقلي انساني” هنا باللاشعور نظرت إلى عينيّ تلك المرأة التي خيّلت إلي ملكةً تجلس على عرش روما أو بابل أو مصر، وعرفتُ أن صاحب “فات المعاد” كان يحلم ويتخيّل نفس العيون حين كتب هذه الملحمة.
صديقي يتّصل بي، الوقتُ تأخر، المدير بانتظاري، المرأة الجميلة تنظر إليّ، عبد الوهاب يغنّي: حبيبي.. آه يا حبيبـــي كل مافيك يا حبيبي حبيبي، أيُّ عذابٍ هذا الذي أقحمتُ نفسي فيه!
لقد قطعتُ المنطقة التي من المفترض أن أنزل بها، لا أريد النزول، لا أريد ذلك العمل، كل الذي أريده الآن أن أكمل نشوتي الطربية حتى لو أخذتني هذه الحافلة إلى المرّيخ، حينما وصل عبد الوهاب إلى “خايف طيور الحب تهجر عشّها” هنا نزلت تلك المرأة ورحلت وبقيتُ وحيداً أنا والسائق وعجوزٍ كبير نردّد وراء مبدع “أنت عمري”: خايف لبكرا يجينا تاخدنا من ليالينا سكّة عذاب تاه فيها أحباب كتير قبلينا.
وصلنا إلى آخر الخط، انتهت الملحمة بـ “وإن لام حد علينا نقوله: لولا الحب ما كان في الدنيا ولا إنسان” وقلتُ في نفسي: الموت لمن ينكر الحب، الموت لمن يغفل الشعور، الموت لكل من يدّعي أنه كائنٌ عقلي، يسذاجته وحماقته وغبائه وقرفه!
كائنٌ عقلي.. أيوجد شيء مثير للشفقة مثل هذه الصفة؟
إن كان هناك فريقٌ في الشعر العربي يرسم بالكلمات فإن مرسي جميل عزيز يقتلُ بها! وعبد الوهاب يحيي قتلاها، ولو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بلحنٍ يشبه ألحانه، ما بلغوا ذلك ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
لقد خسرتُ فرصة العمل في إحدى القنوات السورية وربحتُ استراق النظر في عيني تلك المرأة والإنصات لملحمة “من غير ليه” رفقتها وسوّدتُ وجه صديقي النبيل لكنّه سيعذرني حين يقرأ هذا.