أحياءٌ ولكنّهم أموات؛ يتنّفسون ولكنّهم على وشكِ أن يختنقوا، يعيشونَ الحاضر ولكن بين أسوار الماضي، بين أخطاءٍ اقترفوها في زمنٍ مضى وانقضى، وبين أحداثٍ قد أكل عليها الدهر وشرب، أخطاء قد اتّخذوا منها قبورا لأنفسهم، ورسموا بها النهاية لأحلامهم وطموحاتهم، وضعوها نُصب أعينهم، فطبَعوا بها على آمالهم، وعلى أفكارهم، وعلى قلوبهم غِشاوةَ اليأس والفشل والخوف من الحاضر.
تراهُم قابعينَ في قبورهم تلك، هربًا من الواقع، أو خوفًا من مواجهةِ المجتمع الذي قتلهم ألفَ مرةٍ ومرة، قتلهم مرةً حين لا يلبثُ يذكرهم بأخطائهم، وألفَ مرة حين لم يسامحهم على تلكَ الأخطاء التي ربما قدْ حدثت دون قصد، أو في غفلةٍ مِن مرتكبيها، ممّا شجّعهم على المُكوث في تلكَ القبور، فأقسمُوا على عدمِ مغادرتها أبد الدهر.
قدْ حرّمُوا على أنفسِهم العيشَ الكريم الذي يخلو من التحسُّر على الماضي، والعيش بين براثنِ الندم الذي قد جاوزَ حدّه بينهم وبين أنفسِهم، فقطعَ بها أوصال الثقة، وزرع فيها بذورَ احتقارِ الذات. وقّعُوا اتفاقية مع الحزن، فلا ضحكاتٍ منهُم تسمَع، ولا حديثًا منهم للقلوب يُسعِد، ولا حتى ابتسامةً تعلو تلكَ الشّفاه التي من عُبوسها قد تقلّصت، بل إنّ بعضهم حَرَمَ نفسَه من الأكل والشرب، إلاّ ما يُبقيه على قيدِ الحياة، جعلوا من الحاضر قبرًا فِراشهُ حسرة، وغطاؤه ألم، واعتزلوا العالم الخارجي، فهم في صراعٍ دائم معَ عالمهم الداخليّ.
والسّؤال المطروح ُهنا:
لمَ كلّ هذا؟
أوليسَ هؤلاء من جنسِ البشر؟
من بني آدم؟
المعروفُ عند الخاص والعام، أنّ “كلّ بني آدم خطّاء”، جُبِلوا على الخطأ، فالكمالُ لله وحده سبحانه وتعالى، بل لولا الخطأ لما استقامتِ الحياة، “فلولا وجود عكسِ المعنى، لما كان للمعنى معنى”، ولولا وجودُ الخطأ لما كان للصّواب لذّةٌ وجزاء، ولما كانتْ هناكَ نفوسٌ ثلاث: أمّارةٌ بالسّوء، لوّامة، ومطمئنة.
فَلِمَ الأمّارة بالسّوء، مادام الخطأ ليسَ موجودًا بين البشر؟، ولمَ اللوّامة، مادام الخطأ لم يُرتكَب ولن يُرتكَب؟ عندها ستكونُ هناكَ نفسٌ واحدة يشتركُ فيها الجميع: نفسٌ مطمئنة، فيغيبُ الاختلاف والتنوع من بني آدم، ويصيرون نُسخًا مستنسخة، فتفقدُ عندها الحياةُ جمالها وروعتها، ولأجلِ هذا خلق الله الخطأ والصواب، بل لولا الخطأ لما كانتْ على الأرضِ حياة، فخطأ آدم عليه السّلام أنزلهُ الأرض ليعمّرها وبنيه، ليُكرَّم فيها ويكون خليفة الله تعالى في أرضِه، فأيّ شرفٍ أعظمُ من هذا؟ خطأٌ نهايتُه شرفٌ عظيم.
الجميعُ يخطئ، فهذه سنّة الله في خلقه، وليسَ العيب أن يخطئ المرء مرةً ومرتيْن وثلاث، بل العيبُ وكلّ العيب ألاّ يتوب المرء من خطئِه، أن يعتزلَ الحياة ويتحسّر على خطئه، أن يعطّل مهنتهُ الشّريفة والمتمثلة في إعمار الأرض، بأنْ يجعل ماضيهِ قبرًا يُدفن فيهِ حاضرُه، أن يحرم نفسَه من عيشٍ كريم يسعى فيه لإصلاحِ الخطأ ليس للتحسّر وفقط، أن يغيبَ عن العالم الخارجيّ، لا أنْ يُثبتَ وجوده، ولا يحاولُ توضيحَ خطئه لئلاّ يقعَ فيه غيره، أن يحتقرَ ذاته ويسمح للآخرين باحتقارها، أن يكون علّة في مجتمعهِ لا يسعى لنهضته، ولا يحاولُ تغييره للأفضل، هذا العيبُ وكلُّ العيب.
فيا أيّها الماكثون في قبورِ الماضي, يا منْ قد جعلتُم من أخطائكُم طوقًا طوّقتم به حاضرَكُم، وقيدًا قيّدتُم به طموحاتكم وآمالكم، يا من قد رسمتُم النهاية لعطائكم في سلّم الحياة بسببِ خطأ اقترفتموه.
غادروا قبوركُم ولتجعلوا من أخطائكمْ منصّة توبةٍ لله، وسلّم َعطاءٍ للبشرية، وقاعدةً للتعلّم والتجربة. غادروا قبوركُم، فدولاب الحياة يدور، وقافلتها تمضي على مرّ العصور، فلن تقفَ عند أخطائكم، ولن تنتظرَ أن ترمّموا أنفسكم، لذا غادروا قبوركم.
ويامن تقسُون على المخطئين، يامن تظنّون أنّكم عن الخطيئة مُنزّهون، يامن قد وصمتُم على جبينِ المخطئ وصمة الاحتقار، فشجعتموهم على العيش في القبورِ وهم أحياء، توبوا إلى بارئكم فكلّنا نخطئ، والكمال لله وحده لا شريك له، امسحوا عن جباهِ المخطئين وصمة الاحتقار، واطبعوا مكانَها قبلَ الحنان، خذوا بأيديهم، وانتشلوهم من قبورهم، “فكلّنا بنو آدم وكلّ بني آدم خطّاء”.