فرانسيس بيكون في الميزان

المنهج التفكيري الحديث المعتمد على المنهج العلمي التجريبي، والذي أوّل ما ظهر على يد رائد الفكر الوضعي والعالم البريطاني فرانسيس بيكون، له جانب معتم ودفين في الحقيقة يخفى عن كثير من البشر اليوم وخاصة نحن المسلمون، إنّه يحدث قطيعة سواء مع ذاكرة الفرد الخاصة، أو ذاكرة المجتمع ككل أي الذاكرة الجماعية. قد يندهش الكثير من كلامي هذا وقد يستهزء البعض!، لكن ما أقوله ليس ادعاء ولا كلاما عاطفيا.

– فرانسيس بيكون وفي كتابه “نوفوم أورغانوم”، ذكر ما سمّاه بأوهام الذهن الأربعة والتي عدّها أكبر عائق أمام البحث الدقيق والإختراع، وسنوردها حسب ما جاء في كتابه، وكذلك ما يقابلها من الزاوية الأخرى، أي الأبعاد الإيجابية لما سمّاه هو بالأوهام، التي لم يحاول هو حتى النظر من خلالها، من منطق تمرده التام على ما يسميه التقاليد أو التّراث:

1. أوهام القبيلة

هي أوهام طبيعية في البشر، وتوجد عند الجميع ومن مظاهرها تحكم أمانينا في اتجاه تفكيرنا، ومن مظاهرها أيضاً الميل إلى التعميم مع تجاهل الحالات الخاصّة. يقابلها: ما يمكن أن نسمّيه التراث بكل صوره لدى قوم معينين، أو الذاكرة الجماعية..

2. أوهام الكهف

وسببها أن كل فرد منا ينظر إلى العالم من كهفه الخاص أو زاويته الخاصّة التي شكلتها تنشئته الاجتماعية وتربيته وثقافته. يقابلها: كل ما يختص بالفرد، من ميولات وسلوكيات تتماشى مع قيم مجتمعه..

3. أوهام السّوق

يقصد بها بيكون الأغلاط التصويرية الناتجة عن ميل العقل إلى الانبهار بالألفاظ، ويمكن القول أن هذه الأوهام مرتبطة باللغة. يقابلها: ما يُتولد عن معاشرات الناس وعلاقاتهم، كالكلام الذي يترجم التفكير إلى عبارات وكلمات للتواصل ويحدث أن يحرف الفهم ويؤدي للتناقضات..

4. أوهام المسرح

الأخطاء المعرفية من معتقدات راسخة ومبادئ مغلوطة، فالقناعات الراسخة تدفعنا إلى أنقيم عليها البراهين والحقائق العلميّة، وهكذا تصير راسخة في الذهن بسبب سلطتها وطابعها المتوارث، رغم أنّها في الأصل محض وهم. يقابلها: الأوهام الناتجة عن المعتقدات الخرافية النابغة من المشارب الفكرية والفلسفية المختلفة..

إنّ رؤية بيكون لهذه الأوهام كانت رؤية مميّزة وتوصيفه لها دقيق، لكن إثارة بيكون لهذه الفرضية -التي صارت فيما بعد منهجا علميا-، لم تنطلق من نظرة نقدية بناءة، تحاول إصلاح ما يمكن إصلاحه وترك ما لا يصلح للإصلاح لتبنيه من جديد، إنّما كانت بمثابة هجوم عنيف وثورة أحدثت قطيعة تامّة وكلّية مع كلّ ما هو قديم، دون الالتفات لمحاولة تعديل أو إصلاحٍ!

ما ثار عليه بيكون في الحقيقة ليس سوى ما يدعى سواء عند الأفراد أو الجماعات والمجتمعات بـ:”الذاكرة”، وفي هذا السّياق تكون الذاكرة بمثابة رأسمال رمزي متنوع ومتعدد الأبعاد، وإحداث القطيعة معها يعني انقطاعا عن الجذور، وبالتالي “اغترابا” يقذف بصاحبه إلى هاوية “العدمية”!

ولعل المجتمع الغربي كان أول من عانى من مرارة هذه التجربة، وأوّل من ابتلي بهذا الإغتراب الذي أحدث عدم توازن، وفراغا رهيبا لا تملؤه كل الإنجازات والأعمال والاختراعات التي أنتجها هذا المنهج التجريبي الجديد، وبهذا يكون بيكون قد فتح الباب لحركة الهبوط والنزول قبل أكثر من أربعمائة سنة، وأعراض هذه الحركة قد لا تكون ظاهرة للعيان بسبب الحيوية المتوثبة للفكر الغربي، ولا يمكن أن يبصرها ويتفحصها إلا ذوو البصيرة الثاقبة وأصحاب الرؤية السليمة، الملمّون بسنن الإعمار والنهوض والتمكين والسقوط والانهيار، الدارسون والمطلعون على خط سير تاريخ الحضارات الإنسانية من النشأة إلى الأفول..

إن الجنوح إلى “العدمية” والنزعة المادية البحتة كانت بمثابة بذور الفناء المضمرة منذ البداية في الفكر الغربي، وحاليا الحضارة الغربية في مرحلة إعياء وإجهاد، وفي هذا الصدد يقول الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي: “ماذا يحدث عندما تضعف حضارة؟ هناك أخرى تنتظر دورها.. نستطيع رؤية كيف أن الإمبراطوريات الرومانية انهارت وكيف نشأت المسيحية.. لكن اليوم الغرب المسيحي لم يعد يملك قيما يدافع عنها!.. حضارتنا في طريقها إلى الزوال!”.

ولعل ما يرمي أونفراي إليه في كلامه هذا، أنّ هناك بونا فاصلا ومزيدا من الفرز بين العلم الشهودي المعنوي والروحي (القيمي) والعلم العملي “البركسيس”، وبين الروح والجسم، والفلسفة والدين، ولا شكّ في أن هذا الفراغ والفاصل شكّل ثنائية كامنة في قرارة البنية التأسيسية للفكر الغربي، والذي لم يظهر ويزداد ويعلن عن نفسه رسميا، إلا مع بيكون الذي جعله منهجا جديدا في البحث.

وكأمّة تعاني وتعيش مرحلة انحطاط منذ قرون، كان لابدّ لنا من الاختيار بين أن نبقى أوفياء لذاكرتنا الأزلية، أو ننقاد كمغلوبين نتبع الغالب منبهرين ببهرج الحضارة الجديدة وأضوائها، وننهج منهج القطيعة مع ذاكرتنا التي تعدّ رأسمال ومخزنا للصور الأساطيرية والتي تشكل نبعا للحكمة الفياضة الخالدة للإنسان!

لقد اخترنا القطيعة وسلكنا السبيل الذي اختطه بيكون، فما إن درجنا على هذا الطريق ووضعنا أولى خطواتنا حتى لفنا الضياع، وتشتت بنا السبل لأن الوسائل والأدوات ليست ملكنا، وحتى وإن استوردناه لا يمكن لنا أن نستورد الحضارة، كما يقول مالك بن نبي:

“الحضارة لا يمكن استيرادها.. الحضارة إبداع..”، فلا نحن تقدمنا ولا نحن قدرنا على العودة إلى أصلنا وحقيقتنا. فكيف لأمة خانت ذاكرتها وعملت على القطيعة مع أصلها وجذورها، أن تقف صامدة راسخة القدم دون أن تزل وتسقط وتتردى في الهاوية؟!

إن من أبرز ما دعاني ودفعني لكتابة هذه السطور، هو ما ألحظه اليوم من انبهار ولهث شبابنا وراء ما يسمّى عصر العلم والتّطور والحضارة! إنني هنا لست أنتقص أو أنفي ما قدّمه العلم بمنهجه التجريبي الحديث، من خدمات جليلة ومعارف متعددة للإنسانية في كلّ مناحي الحياة، ولست أنكر الدعوة للعلم والعمل به، لكن ما أودّ التنبيه إليه هو ألا تأسرنا الأضواء والزخارف وتشغلنا عن الجوهر والمعنى، أي لا نذوب تماما ونفقد هويّتنا وانتماءاتنا الأصيلة وننقطع عن جذورنا الممتدة في الأعماق، فنفقد بذلك أغلى ما يمكن أن يجعل منا أَنَاسِيا بالمعنى الحقيقي، إنّها النباهة النفسية والاجتماعية..

عندها نكون قد كررنا نفس الخطأ الذي أدى بنا إلى حالة الضياع التي لا نزال تائهين في صحرائها، لأننا لم نفهم بعد السنن الكونية والاجتماعية للنهوض والسقوط وذلك هو الخسران المبين.

كاتب التدوينة: مسعود بن محمود