لم يشهد التاريخ البشري منذ فجر وجود الإنسان حقبة سلام واحدة، فقد كان نداء الجرماني كانط بـ: السلام الدائم، مجرد حلم سرعان ما انقلب إلى وهم يخدر الشعوب والجماهير الضعيفة بواسطة وسائل تساعد على نهب المنهوب وسلب المسلوب، والأخطر هي تقوم بتعزيز سلطان الإمبراطورية الأميركية من جهة، وترمي بالبقية من الشعوب والحضارات إلى زوايا التاريخ، لعل أبرز هذه الطرائق والوسائل: العامل النفسي في توجيه الحروب بعد افتعالها من جهات أخرى.
ولمحاولة فهم واقع وطبيعة هذه الحقب “القتالية” الرهيبة، يمكننا الوقوف على منابع هذه الذهنية الدموية التي تعمل على تجميل القتلة والمجرمين، معطية لهم الحق في المرح واقتراف البشاعات وهم يرتدون ملابسهم الأنيقة ويحتسون كؤوس الخمور الفاخرة، ليختلط صراخ الضحايا الأبرياء بموسيقى الحفلات الراقية.
- ربما أجمل الحروب وأكثرها عنفوانا في التاريخ البشري؛ والتي أبهرتني أنـــا شخصيا، هي تلك التي قامت بين طروادة واليونان القديمة من أجل: امرأة، من أجل الحب والمحبة، والجموح الخطير للعنصر البشري من أجل خطف القلوب أو امتلاك المجد والجسد معا، وهي روائع ملحمية إغريقية تدمج الكيان الإنساني بطموحاته الرهيبة، يندفع بعدها إلى ساحات القتال ليخوض المعارك بلا تردد، وهذه بالذات من علامات مجون الإنسان أثناء خوضه لمعترك الحياة.
- من أكثر المعارك التي علمتني القيم الشريفة في خوض الوغى هي معركة بَدْرٍ، والتي انتصر فيها المسلمون على جنود الكفر، كانت معركة يقودها الجانبي القيمي الأخلاقي في ساحة لا تعترف بالأخلاق، وضمن صفحات تلك المعركة الشرسة سيشهد عقلك نماذج من صور تتزاوج فيها صورة “النبي” بصورة “القائد”، أين تلعب الروح البشرية الدور الفصل في تحديد مجرى القتال، خاصة إن ما علمت بأن المنتصر كان عدده أقل بكثير من المهزوم، ففي حينها قد انتصر الإيمان على الإنسان.
- أعتقد بأن أعلى مثال للصمود كان على الأراضي السوفياتية أثناء الحرب العالمية الثانية، المدينة التي صمدت في وجه الجيش النازي أكثر من صمود فرنسا بأكملها يومئذ، أقصد بقولي هذا مدينة “ستالين-غراد”، على تلك الأراضي الشريفة، برهن الجيش الأحمر قوة الجليد في مواجهة حرارة الدم الآري، ولأول مرة في التاريخ العالمي للكون، وكم هو عجيب! لأوّل مرة تقف الرغبة البشرية في مواجهة الفيزياء وقوانينه، لينتصر الجليد على الحرارة، وتذوب طموحات التوسع “الحيوي” لألمانيا على سفوح جليد الثبات السوفياتي.
- كما أنني أكاد أجزم بأن ما حدث في فيتنام أمام جيش الولايات المتحدة الأميركية يستحق الاحترام بالفعل، فمن غير المنطقي ولا ضمن مجالات التحليل الرياضي للأحداث، أن تجد أناسا وسط أدغال يقاتلون بأنصاف الأسلحة يهزمون أعتى الجيوش التي عرفها الإنسان، في نكسة رهيبة للقدرة الغربية على احتواء المضامين والتأثير على نتائج الاحداث، ليظهر الشرخ في المنظومة الغربية المعاصرة لأوّل مرة في التاريخ، وتصبح من أهم علامات انهيارها رغم ردود أفعالها العنيفة للغاية من أجل لملمة جراحها عبر غزو كلا من العراق وأفغانستان فيما بعد.
بينما أوضح الامثلة الملحمية التي جمعت كل ميزات هذه المعارك والحروب في اعتقادي كحد أدنى، هو ما قام به حزب الله في مواجهة الكيان الصهيوني “اليهودي” في بدايات القرن الواحد والعشرين، هو مثال صارخ لكسر شوكة “بيت العنكبوت” بإرادة تنبع من فؤاد العنصر البشري عينه، ولأول مرة أشاهد عبر عقلي الصغير التأثير “الحاسم والنهائي” للعامل النفسي للمعارك؛ إن ما تحدثنا استراتيجيا فإن هزيمة الجيش الاوّل في منطقة الشرق الأوسط على يد بعض المقاتلين حتى ولو كانوا مهيئين بشكل ممتاز يبدو بكافة المعطيات الجيو-استراتيجية والمنطقية بعيدا تماما عن التحقق، لكنه تحقق.
يعود السبب في اعتقادي إلى إدارة القيادة في حزب الله للمعركة “النفسية” بشكل جيد تماما، هنا يراهن هذا الحزب على القتال ضمن “الجبهة الداخلية” لبيت العنكبوت، وهو رهان شديد التأثير كما اثبت مفعولا رهيبا نستطيع عبره تلخيص ما حدث في كافة معارك التاريخ التي سبقت هذه المعركة العربية-العبرية على الأراضي الشامية “لبنان”.