للحديث عن نظرية المؤامرة حديث طويل، معقد ومتشابك تشابك هذا العالم المليء بالصراعات والتصادمات والمؤامرات وتعارض المصالح وتدافع القوى.. إلخ
فى بلادنا قوم يحسبون كل صيحة عليهم، يفسرون كل شيء ويفهمون أي شيء في إطار «نظرية المؤامرة» وأن هناك قوى خفية تجلس وتدبر وتخطط في الخفاء للتلاعب بنا وتقرير مصيرنا.. إلخ.
بل يستخدمونها لتفسير أحداث غائرة في أعماق التاريخ مثل مقتل سيدنا عثمان وخيانات ابن العلقمي التي أدّت لسقوط بغداد في يد المغول وغيرها من الأحداث!!
وفريق آخر يعيش في رومانسية حالمة يكفر بالمؤامرة ويسخر ممن يروج لها ويرى أن الحكومات والدول أشبه بجمعيات خيرية تدير الأمور وتخوض الحروب لأجل مساعدة الآخرين وتقديم يد العون لهم!!
اللافت للنظر أن الليبراليين العرب يروجون لأسطورة مفادها أن نظرية المؤامرة اختراع إسلامي وأن عقولنا «القابلة للاستعمار» ومركب النقص لدينا هو الذى ساهم فى رواجها وانتشارها، حتى أصبحنا نفسر كل شيء فى ضوئها والحقيقة غير ذلك، إذ أن الفكرة والمصطلح غربيان وهذه النظرية رائجة فى كل المجتمعات لكن تختلف درجة رواجها من دولة لأخرى وتأخذ أبعادا مختلفة باختلاف المجتمعات، وحسبنا أن مفكرين غربيين كبار مثل كارل بوبر ونعوم تشومسكي تكلموا عنها واعترفوا بها..
ما بين هؤلاء وأولئك تضيع حقائق وتغيب عنا قراءة صحيحة للأمور فإذا بنا «مفعول به» دائما لا نعرف حتى تقرير مصيرنا ولا إلى أين تسير الأمور!!
يمكنني تلخيص الحديث عن نظرية المؤامرة بـ «المؤامرة واقع نعيشه، الإيمان بوجودها ضرورة لتقويم الفكر وتفسير كل شيء في ضوئها جنون وانتحار».
فى هذا الإطار نستعرض كتاب «?Who paid the piper -أو- من يدفع أجر العازف؟؟» لمؤلفته الكاتبة الإنجليزية “فرانسيس ستونر” ترجمه للعربية “طلعت الشايب” من إصدار المركز القومي للترجمة، الكتاب صدر بالإنجليزية سنة 1999، وقد تأخرت عملية ترجمته للعربية كثيرا.
أصل عنوان الكتاب بالإنجليزية معناه ”من يدفع أجر العازف” مقتبس من المثل الإنجليزي الشهير القائل: «من يدفع أجر العازف يختر اللحن»..
هذا الكتاب من الكتب المهمة جدا في تشكيل الوعي العربي بما حولنا من ظواهر وسياسات دائما ما نكون نحن «المفعول به» في السياسات العالمية!!
الكتاب يتحدث عن «المخابرات المركزية الأمريكية C.I.A ومحاولة السيطرة على العالم»، لكنه لا يتحدث عن هؤلاء العملاء الذين يخترقون الجيوش وقصور الرئاسة إنما يتحدث فى مجال بعيد نسبيا عن خيالات المواطن العربي البسيط.. إنه يتحدث عن محاولات ال C.I.A اختراق الثقافة العالمية من خلال إنشاء جمعيات ثقافية وتمويلها بطرق مباشرة وغير مباشرة، باختصار إنه يتحدث عن وسائل المخابرات الأمريكية في تجنيد النخب الثقافية والعلمية في العالم.
يظن البعض أننا عندما نقول «المخابرات الأمريكية تجند المثقفين حول العالم» فإننا نتحدث عن ذلك الأسلوب الجاسوسي المعروف في مجال الحرب واختراق الجيوش، وبالتالي يصعب عليهم فهم قضية كهذه القضية والحقيقة أن وسائل اختراق أجهزة المخابرات للمؤسسات والأفراد تعتمد ألف طريقة وآلاف الصور وليست تلك الصورة الساذجة المعهودة التي تكاد تكون اختفت فعلا لتحل محلها أساليب ووسائل جديدة!
وفي هذا تقول الكاتبة:
الفكرة وراء ذلك كانت الترويج للثقافة الأمريكية والعالم الجديد لخلق هيمنة ثقافية لدعم إمبراطوريتها الاقتصادية والعسكرية.
فالوكالة كانت تركز خصوصا على إرسال الفنانين السود إلى أوروبا كمغنين مثل «ماريون اندرسون»، كتاب وموسيقيين أمثال «لويس ارمسترونغ» لإسكات الانتقادات الأوروبية ضد سياسات واشنطن العنصرية ضد السود والملونين وغيرهم وكانوا يستبعدون من قائمتهم كل كاتب أسود لم يتماش مع خط واشنطن أو انتقد سياستها، كما كان الحال مع الكاتب «ريتشارد رايت».
كانت الوكالة تدعم «عن طريق جمعياتها الثقافية التي تمولها» العديد من الحركات والجمعيات الثقافية في العالم التي تتبنى المواجهة مع الشيوعية، وتعمل على أن تتسق هذه الحركات مع الأهداف الأمريكية تسويقا للثقافة الأمريكية والانبهار بها وليس مجرد الانبهار فقط، إذ الأمر قد وصل لدرجة سياسية أعمق تمثلت في دعم بعض الاتجاهات الفنية ضد اتجاهات أخرى يتبنى أصحابها رؤى سياسية لا تتسق مع التوجهات الأمريكية «غالبا ما تكون اتجاهات يسارية».
أحد الأدوار الأساسية الذي لعبه فن الرسم الأمريكي في الحرب الثقافية إبان الحرب الباردة هو أنه زيادة على أنه أصبح جزءا من مؤسسة دعائية بل من كونه حركة عليها أن تكون بعيدة عن الاستقطاب السياسي أصبح اتجاهه برسم منحى سياسي محدد.
في هذا الإطار، جدير بالذكر أن الولايات المتحدة عرضت مبالغ على بعض المثقفين العراقيين قبل غزو العراق تمثل في مائة ألف دولار ووظيفة محترمة!! من أجل تسويق كراهية صدام بين العراقيين وبالتالي التسويغ لعمل أمريكا الإجرامي في قتل العراقيين باسم الحرية والديمقراطية!!
كان التجنيد يتم عن طريق الندوات والمؤتمرات والحلقات الدراسية وإقامة حفلات موسيقية وندوات أدبية ومؤتمرات جماهيرية وغيرها، وهنا يبرز اسم «جمعية الحرية الثقافية» وهي جمعية تمولها المخابرات الأمريكية كانت تجذب لأنشطتها كبار الفلاسفة والمفكرين والأدباء والشعراء، فلا تصدم إذا عرفت أن أسماء مثل سارتر وجورج اورويل وبراتند راسل وغيرهم ممن تورطوا فى هذه الأنشطة وأن القليل جدا من الشعراء والكتاب والمؤرخين لم يتلطخ اسمه بمثل هذه الأنشطة والعلاقات المشبوهة!
من أشهر المجلات العربية التى حصلت على دعم أمريكي «حسب الكتاب»: مجلة فصول المصرية، مجلة حوار ومجلة شعر اللبنانيتان، وغيرهما من المجلات والمؤسسات الثقافية في عالمنا العربي التي يكون دعمها معلن حينا وأحيانا غير معلن مجهول الهوية والمصدر والأهداف!
الكتاب في مجمله جميل ومهم وثمة ملاحظة أن الكتاب يحوى سيلا من أسماء الأشخاص «أجنبية بالطبع»، في الأخير إنه كتاب جدير بالقراءة على كل حال.