صديقي العزيز..
أرسل إليك خطابا من القلب.. قد تأخر نوعا، ولكني أؤمن دائما بتلك الحكمة التي تقول “أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي أبدا”..
تذكر تلك الفتاة الرقيقة التي أسررت لي يوما أنك تحبها كثيرا، وظللت تخفي ذلك عنها منتنظرا حين تسمح لك الظروف، وتذكر أيضا أنك قد أخبرتني أنها تبادلك نفس المشاعر المرهفة التي لطالما كانت تجول في قلبك.
أذكر كذلك أنك كنت قد اقتربت منها شيئا فشيئا، انهالت عليها نظراتك وابتساماتك وعباراتك التي كانت تشي بأنك تشتهيها بالذات وتفضلها عن زميلاتها الأخريات، وحينما استجابت -هي- واقتربت ظننت أنك الآن قد امتلكتها.. فتوقفت من حينها عن الحراك، وتركت الأيام تمضي بكما بلا هدف واضح ولا جدوى، وتركتها في حيرتها كالمعلقة، لا تعرف المسكينة أتنتظرك أم ترحل.
اختفيت كعادتك التي دائما ما تتقنها بين كل حين وآخر.. ظللت تلملم أشياءك المبعثرة وتبحث عن ذاتك هنا وهناك.. بالطبع ازدادت مكتبتك الثمينة نيف وعشرين كتابا جديدا.. وحصلت وبتفوق على بعض الشهادات والدراسات العلمية، ثم انهمكت أخيرا في دائرة العمل المفرغة فلم تفتأ تعمل وتعمل حتى أنهكت قواك وبددت سنين عمرك في مقابل بعض المناصب والأموال.
وحينما قررت أخيرا أن تعود -بعد رحلتك المرهقة- إلي فتاتك الصغيرة لتصارحها.. لم تجدها الفتاة الصغيرة التي تركتها.. لقد تغيرت كثيرا، نضجت وازدادت عقلا وجمالا.. ولم تعد تأبه بثقافتك الواسعة ومقالاتك العميقة التي لم تفهم هي حرفا منهم يوما.. ها وقد ارتبطت أيضا؛ هذا ما لم تعد له العدة يا صديقي..
فبينما كنت أنت تائها في ذاتك، تجمع شتات نفسك، تصارع الدنيا وتصرعك.. تحرك مجاديف قاربك بقوة لتظفر بالنجاة من بحر الحياة الهائج المتلاطم الأمواج..
كانت الأخيرة قد سئِمت أنانيتك ويأست منك ومن طول غيابك وكثرة ترحالك.. راودها عاشق تلو آخر فصمدت ولم تكترث إلى أن وقعت أخيرا في حبائل رجل غيرك.. رجل لم يكن مثلك أحمقا..
أخذ بيدها الرقيقة الناعمة بجرأة.. وداعب فيها أنوثتها المنسية.. وأسرها بحلاوة لسانه ووضوح موقفه وطيش مشاعره.. وأخذا يشقا طريقهما معا في الحياة.. كان كل تعثر وكل إخفاق وكل نجاح يزيدهما قربا وحبا.. بينما كنت أنت تكافح لذاتك وتنجح لذاتك..
دعني أخبرك يا صديقي أنك لم تعد مرغوبا فيك كما كنت دوما.. أذكر أنك كنت دائما ذلك الفتى الذي تهتم لشأنه الحسناوات.. لطالما تمنعت عن هذه ورفضت تلك.. لطالما كنت واثقا رزينا عاقلا.. كنت فارس الأحلام لدى الكثيرات ممن عرفنك.. أعجبتهن بشخصيتك الغامضة، وحديثك المنمق، وعمق أفكارك ورصانة عقلك ومواقفك الحاسمة، وخطواتك المحسوبة، وعدم اهتمامك بأحد وعدم اكتراثك لشيء.
ولكنك اليوم قد شخت يا صديقي.. كبرت كثيرا وفقدت كثيرا من شبابك وحيوتك.. لم يتبقَ منك إلا مكتبتك الثمينة وشهاداتك العلمية التي رقدت منذ زمن في أدراج مكتبك..
ولم تنتفع كذلك بأفكارك العميقة وفلسفتك المعقدة أكثر من أن تربح بهم نقاشا أو تكتب منهم مقالا أو تكسب بهم إحتراما عابرا.
لقد خدعنا يا صديقي.. ألقينا بأنفسنا في معترك الحياة المادي حيث المال والعمل والمنصب، وهرعنا وراء الدنيا نتسابق نحو قطاراتها المتسارعة في كل اتجاه.. يختر كل منا قطارا ليصل به إلى محطة تالية ثم يستقل كل منا قطارا آخر في اتجاه آخر، ثم نهبط ونستقل آخر، ونهبط ونستقل آخر.. وظللنا ندور بكد في هذه الساقية الكبيرة حتى وجدنا أنفسنا أخيرا وبعد رحلة شاقة وطويلة نقف أمام محطتنا الأولى ونعود إلى قطارنا الأول..
فنهبط ناكسي الرؤوس.. منهكي الأرواح.. ننظر حولنا في تحسر وخيبة أمل، ولسان حال الواحد منا؛ “ليت الشباب يعود يوما”.
صديقي العزيز.. لا ترهق نفسك بالرد علي خطابي هذا. فأنا لا أنتظر عليه ردا.. فقط أردت أن أخبرك بأني لن أواصل هذه اللعبة السخيفة مجددا.. سأهبط الآن ولن أستقل القطار التالي.