مدونات الرأي

قطار الخليع.. آلة حدباء تشيع الوطن

أرخى الموت ظله الكثيف، كاشفاً الغطاء عن بصرٍ من حديد، لرؤية بشاعة الحياة، في بلاد الحياة المؤجلة، والنوائح المعجلة، والدموع المعدة سلفاً لتشييع الوطن، إلى مرقده الأخير..

وفعلاً، شيع قطار القينطرة، أرواح أُناسٍ لا ذنب لهم سوى أنهم اشتروا تذاكر سفر، فاستحالت تأشيرات لعبور البرزخ هروباً من بؤس وطن نحو عدالة السماء..

هان دم الإنسان في وطن يتجه منذ مدة نحو عنق الزجاجة، فغسلوا دنسه بدمائهم الزكية، وصمتت الشفاه الغليظة والرقيقة، أمام دمدمة ”قطار الخليع“، الذي كتب بسكته صفحة أخرى من الإدانة، في تاريخ المغرب، عنوانه ”لا يموت المرء هنا حتف أنفه“ وله على وطنه حق ”الكفن والحنوط“..

وقعت جريمة كاملة الأركان، ركنها الأساس تقصير في تبليغات زبناء قطارات ”الخليع“، مِن لدن مَن أنيطت لهم المسؤولية، لكنهم قتلوا المواطن والمواطنة وذرفوا عليه دمعاً سجل برقمٍ أخضر في سخرية من ربيع شباب تلك الزهور..

بلاغ مكتب ”الخليع“، نفى تلك البلاغات في تجسيد صارخ، وواضح للمثل الإنجليزي ”لا تصدق الخبر حتى يتم نفيه رسمياً“..

هل انتقلت مصالح مكتب الخليع إلى مكان التبليغ للوقوف على الخطأ المحتمل، هل تأكدت فعلاً والمبلغون يؤكدون أن رجال سكك الحديد، كانت ردودهم كانت مقطوعة من صَخر.. أسئلة مؤرقة تتزاحم في الرؤوس، يبدوا البحث عن أجوبتها، كمن يحرث في البحر، أو كمن يستنجد بالنار من الرمضاء..

إنه اعتراف واضح، وبوجه من أجود أنواع الكاسيترايت، يعلوه نقاب كي لا تشم روائح تفحم الجثث، وعطن الدماء القانية، التي رسمت بعندمية عدمية البلاد. إنتهى الكلام.. والبقاء للأقوى..

وإذا كان ”الخليع“، في الموروث الثقافي المغربي، له مفهوم لحمٍ مجفف ومعشق بسمنٍ، فقد أكد مكتب ”الخليع“، أن أرواح المواطنين، الذين يسافرون متن قطاراته، مشروع لحمٍ مجففٍ تحت أشعة شمس التأخيرات، قبل أن تتكفل هكذا حوادث، بطهيه، في مراجل القطارات، إذا ما قدر الله، ولو إلى حين..

مربط الفرس، في فاجعة ”قطار الخليع“، هي أنه لا يمكن مؤاخذة راقصٍ في بيتٍ ربه يضرب الطبل، ولا يمكن أن تلام من وهبت صياحها ودموعها للمآتم والنوائح..

وإذا لم يعاقب المسؤول الحقيقي، في هذه المجزرة، فليكن السادس عشر من تشرين الأول/ أكتوبر، يوم عيد أضحى مغربي، نفدي به رقاب المسؤولين، من عقاب المحاسبة، كما فدى الله رقبة إسماعيل من سكين إبراهيم بالكبش..

ستبقى روائح الموت ساكنة خياشيم تلك القطارات، كلعنة خذلان سرمدية، معجونة بجثث القتلى ودماء الضحايا، مستكينة في شبابيك تذاكر الموت.. ستبقى كقارورة عطر، معبئة بدم الشهداء، تتفل رذاذاً على الصمت المستحيل، توزع تكاشير الواقع الحقيقية، بدل بسمات الأمل المزيّفة..

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

أظهر المزيد

سعيد المرابط

كاتب صحفي، معد تقارير روبورتاجات وتحقيقات استقصائية، ومحتوى القصص الصحفية الرقمية..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى