إن الأدب كالطعام يمكن أن يكون مذاقه حلو، مالح أو مر وكل واحد منا له مذاقه الخاصالمفضل، إذا لم يكن مذاقك الأدبي المفضل “مر” فاحذرالاقتراب من أدب فرانز كافكا، فهو جرعة اكتئاب أدبية مركزة لا يستطيع تناولها كل قارئ ويمكن أن يدخلك في غيبوبة اكتئاب أنت في غنى عنها.
كافكا أيقونة الأدب السوداوي
فرانز كافكا أو كما يلقب “رائد الكتابة الكابوسية” ، كاتب تشيكي الأصل و يهودي الديانة. عاش حياته وهو منفصل ومنعزل عن محيطه” لأنه غير قادر على الانغماس في الحياة الحقيقية كبقية البشر”(1).
تعرف الكتابة الكابوسية بـ “تصوير الأحداث غير الواقعية بطريقة تبدو واقعية للغاية كما يحدث في الكابوس”.
تمتاز نصوص كافكا الأدبية بالرمزية والغموض، فهي تحمل تأويلات وتفسيرات عدة. تكسو كتاباته مزيجا من مشاعر البؤس والشقاء. أعماله وليدة شخصيته وطبيعته، “قصصي هي أنا” ويقول أيضا “حياتي هي محاولة للكتابة”(2).
يعد كافكا من أعظم كتاب القرن العشرين، دخلت الكثير من أعماله الأدبية عالم السينما مثل المسخ والقلعة. كافكا يكتب ما لا نجرؤ نحن على الشعور به فضلا عن الاعتراف به وهو لم يكتف بنبش وبعثرة مشاعر القارئ بل تجاوزت عبقريته الأدبية ذلك لتصبح مصدر إلهام للكتابة.
“استيقظ جريجور سامسا من أحلامه المزعجة صباح يوم ما ليجد نفسه في سريره متحولا إلى حشرة عملاقة”، يقول الأديب الكولومبي الشهير غابريييل ماركيز: “عندما قرأت ذلك السطر قلت لنفسي أني لم أعرف من قبل أحدا يسمح له بأن يكتب شيئا كهذا. ولقد بدأت بعدها على الفور بكتابة القصص القصيرة.(3)
الاغتراب عند كافكا
الخوف.. التردد.. القلق.. عدم الإحساس بالأمان، الشعور باللامعنى. كل هذه المشاعر تشكل معا ملامح عالم كافكا الداخلي، وهي أيضا أعراض الاغتراب النفسي الذي كان يعانيه ويعزى هذا الاغتراب إلى حس كافكا الشاعري ويقظته الوجدانية حيث “يرى نيتشه أنه كلما كانت أصالة الفرد أكثر عمقا ازداد عمق اضطراره للاغتراب عن مجتمعه إذ يذكر أن أولئك الذين يمتلكون موهبة التعبير عما يعانون تزداد معاناتهم عن الجموع الصامتة”.(4)
أعراض الاغتراب واضحة جلية في أعمال كافكا وشخوصه، وهي بذرة نتاجه وإبداعه الأدبي، “… كل ما نجحت في تحقيقه ليس إلا نتاجا للوحدة”.
جزء كبير من اغتراب كافكا ينبع من أسرته لاسيما والده الذي كانت علاقته به مضطربة جدا -سنتحدث عنها بالتفصيل لاحقا-. هيأت له أسرته هذا الجو الاغترابي من خلال إرغامه على الانخراط في المجتمع الأوروبي لضمان حياة كريمة له ولكن لم تكن هذه الحياة تناسب كافكا. فالمجتمع الأوروبي آنذاك لم يكن مثاليا بالنسبة لشخص يهودي يتحدث باللغة الألمانية ويعيش في بلد التشيك، فإتقانه اللغة الألمانية عزلته عن أبناء بلدته وديانته اليهودية، وجعلت منه “منبوذا” في نظر الألمان.(5)
“إنني أكرههم جميعا واحدا بعد الآخر”.. هكذا عبر كافكا عن مشاعره تجاه أسرته، ثمة منبع آخر لاغتراب كافكا وهو المجتمع، فقد كان دائما ما يشعر بأنه دخيل رغم أن أسرته لعبت دورا كبيرا في نشوء اغتراب كافكا النفسي ولكن الدور الأكبر تلعبه طبيعة كافكا النفسية وحسه الشاعري المرهف. إن كافكا ولد وهو يستنشق غبار الاغتراب، حيثما يكون سيشعر بأنه ليس في المكان الصحيح، حيث لا يوجد لمثل كافكا مكان صحيح أو مناسب فالاغتراب جزء من تكوينه النفسي وركن ثابت من أركانه.(6)
رسالته إلى والده
علاقة كافكا بوالده كانت متدهورة وقد كان لها الأثر الأكبر على حياة كافكا وشخصيته.
كان هيرمان -والد كافكا- مثال الأب المتسلط المستبد ذو الأسلوب التربوي الجلف والتعامل الفظ، يحب بكره ويعطي أقل مما يأخذ. لا يعترف بحقوق أبنائه عليه ولكن يعترف بواجباتهم نحوه وأهم واجب عنده “طاعة أوامره” بدون جدال أو اعتراض حتى لو كانت تلك الأوامر تتعارض مع مصلحة أبنائه.
لم يكن كافكا يملك الشجاعة لمواجهة أبيه بظلمه واستبداده له فكتب له رسالة يشرح فيها كيف تسبب أسلوبه في التربية في نشوء شرخ كبير في نفسه وخلق فجوة هائلة بينه وبين والده.
يستهل كافكا رسالته بـ:
“سألتني مرة لماذا أدعي أنني أخاف منك ولم أعرف كالعادة أن أجيبك بشيء، من طرف بسبب هذا الخوف نفسه الذي استشعره منك، ومن طرف لأن تعليل هذا الخوف يتطلب تفاصيل أكثر مما أستطيع أن أجمعه إلى حد ما في الكلام”.
نتاج كافكا الأدبي ثمار معاناته مع تسلط أبيه؛ “كانت كتاباتي تدور حولك والحق كنت أشكو فيها ما كنت لا أستطيع أن أشكوه على صدرك”.
طبيعة كافكا النفسية مغايرة لطبيعة أبيه، وهو يعزو الكاتب علاقته السيئة بوالده البعض إلى هذا الاختلاف:
“كان كل منا يختلف عن الآخر وفي هذا الاختلاف كان كل منا تهديدا للآخر”.
فكافكا كان مرهف جدا شديد الخوف والتردد على خلاف هيرمان، الوالد المتسلط القوي الجبار، وكان كل واحد منهما يتعامل مع الآخر بحسب سجيته وطبيعته.
لقد كان هيرمان يعامل ابنه الهزيل الضعيف بقسوة سحقت بنيته النفسية الهشة أصلا. يذكر كافكا في الرسالة موقفا تعرض له وكان له أثر كبير في نفسه. في ليلة ما بكى كافكا بصوت مزعج داعيا أنه عطش والحقيقة هي أنه كان طفل يجد في هذا الازعاج تسلية ليس إلا، عندما سمع هيرمان صراخه اشطاط غضبا وقام بحمله إلى الشرفة وظل كافكا هناك وحده لفترة زمنية وجيزة مرتديا ملابسه الداخلية فقط.
“لقد أصبحت آنذاك مطيعا بعد ذلك، لكنني أصبت بخلل داخلي”.
كافكا لا يتهم أبيه بالظلم والاستبداد المقصودين بل يرى أن المعضلة كلها تكمن في أسلوبه التربوي الذي ظاهره القسوة والظلم وباطنه حسن نية ومحبة، فهو كان يوجهه ويشجعه على سلك طريق قد تكون نافعة ولكن لشخص غير كافكا، فأسلوب هيرمان التربوي لا يتوافق مع طبيعة كافكا النفسية.
يشكو كافكا في رسالته من تهكم وسخريه والده له، فقد كان يتهكم بأي شيء وأي أحد تربطه علاقة بابنه، فكان يشتم أشخاصا مقربين إليه: “.. تكيل الشتائم والافتراءات والإهانات وكان على أناس أبرياء براءة الأطفال”، ويستخف بأي عمل يقوم به أو إنجاز يحققه “عندما كنت أسعد بأمر ما يملك على نفسي فآتي إلى البيت وأتحدث عنه فلا يكون الجواب إلا تنهيدة ساخرة”.(7)
تُرى كم “هيرمان” يوجد عندنا في الوطن العربي؟ أظن أن الإجابة تقديرية نظرا لأن الرقم هائل، لعل السؤال الأهم هو هل ينجب هيرمان عندنا كافكاوات؟ أعتقد بأن كل أسرة عربية يوجد فيها هيرمان يوجد فيها على الأقل كافكا واحد.
أمل أنك لستي “كافكا”
التهميش من فضلك