في ظل الأحداث الأخيرة التي شهدتها المنطقة العربية، والصراعات التي تتمخض فيها الأمة الإسلامية في العهد القريب، ارتأت الأنامل أن ترفع قلمها وقرطاسها وتشارك في التعريف بجزء يسير بالمشروع الصهيوني، المارد الأعظم واليد الخفية وراء كل هذه الأحداث.
فتهيأ يا صاح وأعد زادك لنغوص في لوحة مشوشة المعالم من تاريخنا الحديث، لعلنا نأخذ شعلة تنير لنا طريق ما يحاك لأمة تكاد أن يأفل نجمها، لكنه لن يموت بإذن الله تعالى، وسرعان ما سنرى له توهجا ونورا عظيما يزيل الضباب ويمسح القذى عن أعين طال سباتها.
لم تمض إلا عقود قلائل على تأسيس الحركة الصهيونية السياسية المعاصرة على يد مؤسسها والأب الروحي لها ثيودور هرتزل، والتي قامت على أهم فكرة وهي عودة اليهود إلى الأرض الموعودة، حتى جاء الوعد المشأوم لـ آرثر بلفور وزير الخارجية البريطاني في رسالة تضم سبعا وستين كلمة تعطي الوعد لليهود بعودتهم لأرض فلسطين.
فما الدافع لبريطانيا العظمى آنذاك لإعطاء مثل هذا الوعد لشعب مشتت مطارد في العالم؟
فالنتَتبَّع معا هذه الأحداث المتسلسة بعرْض مقتضب لنأخذ صورة إجمالية لـ وعد بلفور والأسباب المؤدية إليه، ودواعي بريطانيا وراء هذا الوعد الذي غيَّر خريطة الشرق الأوسط، وزرع فيها فيروسا خبيثا سَمَّوه دولة إسرائيل.
ففي عام 1914 اندلعت شرارة الحرب العالمية الأولى، فرنسا وبريطانيا وروسيا في جانب، وألمانيا والدولة العثمانية في الجانب المضاد، ودول أخرى ليس لها التأثير الكبير في الأحداث توزعت بين الجانبين، وكل يولي وجهه صوب مصالحه.
في خضم الحرب والتطاحن لم تكن المدافع فقط من تُغيِّر وجه العالم، بل كانت هناك تجمعات سرية بين حكومتي فرنسا وبريطانيا، تجمعات كانت تتفق فيها القوتين على إعادة توزيع العالم، مثَّل عن الجانب البريطاني السير مارك سايكس وعن الجانب الفرنسي فرانسوا جورج بيكو، فيما عرف تاريخيا باتفاقية سايكس بيكو.
أخذت فرنسا بموجب الإتفاقية من الأراضي العثمانية الجزء الأكبر من بلاد الشام وجزء كبير من جنوب بلاد الأناضول ومنطقة الموصل، فيما أخذت بريطانيا منطقة واسعة تضم بغداد والبصرة وجميع المناطق بين الخليج العربي والمنقطة الفرنسية، فيما ظلت فلسطين تحت الإدارة المشتركة بينهما، ولم يتفق كلا الطرفين على أن تكون لأحدهما خالصة نظرا لما تحمله القدس من تاريخ عريق للمسيحية، باحتوائها حسب اعتقاد النصارى قبر يسوع المسيح، دفين كنيسة القيامة، ولأنها تقع جغرافيا على حدود معبر السويس بوابة العالم على القارة الهندية.
خرجت بريطانيا من الاتفاقية وهي غير راضية عما أسفرت عنه بشأن فلسطين، وبدأت تفكر في حيل جديدة لتكون فلسطين خالصة لها دون فرنسا.
في تلك الأثناء ظهرت الحركة الصهيونية ولم تكن قبلُ ذات نفود يذكر، وبرز على الساحة حايِيم وايزمان، يهودي صهيوني من جملة اليهود الروس المهاجرين إلى بريطانيا وشرق أوروبا، ويعتبر أبرز شخصية في الحركة الصهيونية بعد ثيودور هرتزل، ولعب الدور الأهم في إعلان بلفور، ليكون بعد ذلك أول رئيس إسرائيلي.
عرض وايزمان على الحكومة البريطانية دعم الصهاينة باعتبارهم -كما ادعى وايزمان- حركة تمثل جميع يهود العالم، وأن لليهود يد خفية قوية وتأثير كبير على تغيير مجريات الأحداث لصالح الحكومة البريطانية.
باءت كل محاولاته بالفشل، لكنه سرعان ما وجد أُذْنا صاغية، شخصية من النخبة اليهودية في الحكومة البريطانية، وهو هربرت صموئيل وزير الصحة، وليكون بعد ذلك أول مندوب سام لبريطانيا في فلسطين، واتفق أن هربرت كذلك يتبنى أفكار الصهاينة بامتلاكهم دولة على الأرض الموعودة، بل وُجد في مذكراته سنة 1915 مقترحات له عن مصير فلسطين بعد الحرب، من بينها أن تكون دولة لليهود.
وبالتالي بدأت بريطانيا تنظر للفكرة بنوع من الجدية، واعتقدت أنها لو بدت وكأنها تدعم الحركة الصهيونية فستكسب دعما من يهود العالم، وهناك سبب آخر وهو أنه ستعيد فتح ملف فلسطين مع فرنسا بجعل اليهود ذريعة، وفي نفس الوقت التخلص من اليهود بجمعهم في مكان واحد لتسهل السيطرة عليهم، ولا ننسى أنه كان للصهاينة يد في فرنسا وألمانيا لتحريك الحكومات اتجاه مصالحهم بالحيلة والإغراء المالي.
ونتيجة لهذه الأحداث فتحت بريطانيا من جديد المفاوضات مع فرنسا بشأن فلسطين سنة 1916.
وفي بداية 1917 اندلعت الثورة البلشفية في روسيا مما أدّى إلى انسحابها من الحرب، وزاد من احتمالية تحالف بريطانيا مع يهود روسيا، لأنه كان هناك احتمالية كبيرة أن تنقلب روسيا ضد بريطانيا بعد الثورة، وكذلك تسرب خبر عن نية اعتراف ألمانيا بحق اليهود في فلسطين، بل وُجدت مذكرة لشخص يدعى سيكلوف تحتوي رسالة فرنسية لبريطانيا بدعم الحركة الصهيونية.
كل هذه الأحداث وغيرها جعلت الحكومة البريطانية تعقد تجمعات وتسابق الزمن لإعطاء الوعد للصهاينة، وفي الجانب الصهيوني نُظمت لقاءات لانتقاء كلمات وعد بلفور بغاية الدقة، وأرسلتها إلى الصهاينة في أمريكا لتباركها وبعدها إلى الحكومة البريطانية.
وفي الثاني من نوفمبر 1917 جاء اليوم الموعود، المؤتمر الصهيوني البريطاني الأول تحت مباركة فرنسية، لإعلان وعد أرثر جيمس بلفور.
وفي حقيقة الوعد أنه لم يعد اليهود بدولة، كما جاء في رسالة أن وايزمان لا يطمح في أكثر من مشاركة اليهود في مجلس حكم في فلسطين، من أجل ضمان حرية نزوح اليهود المضطهدين في العالم، وهذه خطوة أولى لضمان عدم تراجع بلفور في وعده، لتكون بعد ذلك حبة رمل أثارت زوبعة هوجاء من الأحداث لم تتوقف إلى يوم الناس هذا.
ففي سنة 1922 أدرجت لندن وعد بلفور في صك الانتداب في عصبة الأمم، ما أضفى عليه نوعا من الشرعية الدولية، وفي سنة 1936 قامت الثورة الفلسطينية الكبرى لثلاث سنوات ضد الانتداب البريطاني والتوطين اليهودي، وفي نفس السنة اعترف البريطانيون لأول مرة من خلال ما عرف بلجنة بيل بأنه بدلا من أن يُوجِدوا توازنا بين الجاليات أطلقوا العنان للتنافس بين حركات قومية غير متجانسة مما أدى إلى فكرة حل الدولتين.
وفي سنة 1939 أصدرت بريطانية ما عرف بالكتاب الأبيض، تتراجع فيه بريطانيا عن فكرة الدولتين لصالح تأسيس دولة فلسطينية موحدة بتمثيل عربي ويهودي.
وفي سنة 1939 اندلعت الحرب العالمية الثانية لتسقط إثرها عصبة الأمم وتكتب شهادة وفاة الانتداب البريطاني في فلسطين، عندها بساعات فقط من انسحاب بريطانيا استند الصهاينة بلسان ديفيد بن غوريون على وعد بلفور لإعلان دولة إسرائيل في 24 ماي 1948؛ هكذا أنشئت إسرائيل، وكانت وما تزال غَصَّة في حنجرة المسلمين إلى أجل غير مسمى!.