مع انتشار ما يصطلح عليه بـ الخطاب التنويري، طفت على الساحة الفكرية عدة أفكار ملغمة، وخاصة مع منح الحرية التامة لمروجيها، بل وأعطيت لهم منابر إعلامية، سواء مجلات، جرائد، وقنوات فضائية، وكذلك يسرت لهم سبل النشر بإعطائهم الدعم اللازم، لذلك نجد أن أفكارهم أصبحت تسري في المجتمع وكأنها سرطان منتشر، وفي ظل وجود شباب غير مكون دينيا تكوينا متينا، بل جل شبابنا معرفتهم بالدين سطحية، لا تتجاوز معرفة الأمور العامة المتوارثة..
لذلك نجد أن الكثيرين منهم ينخدع لهذه الخطابات، وينغمس فيها بسهولة، وذلك راجع لمعرفته الضئيلة، وكذلك لبراقة هذه الخطابات، المتسمة بالموضوعية والعقلانية، وكذلك هناك أمر آخر مهم هو الذي جعل هذا الخطاب ينتشر، هو أن الخطاب الديني المنتشر بين العوام، قد طاله تشويه مع بداية تقهقر الأمة، فبدأت تظهر فيه الخرافات والخزعبلات، فسهل على مروجي تلك الأفكار، أن يرموا الدين بكل ما يريدون، ويستشهدون على ذلك من واقع المسلمين.
يحكى أن محمد عبده رحمه الله زار إحدى البلدان الأروبية، وبدأ يحدثهم عن الإسلام وأنه دين العدالة والحق، ودين الفطرة، وينهى عن السرقة والغش والكذب.. إلخ، فأعجب أحد بقيم الإسلام وقرر أن يزور بلاد المسلمين، لكنه ما إن وطئت قدمه إحدى البلدان الاسلامية حتى صدم لهول ما رأى، إذ وجد أن الفرق شاسع بين ما حدثه به الشيخ وبين واقع المسلمين، فعاد يستنكر على الشيخ، فانتظره الشيخ حتى أتم كلامه، ثم أجابه بحكمة عظيمة، فقال له ياهذا: إنما كنت أحدثك عن الإسلام وليس المسلمين!.
هذه الحكاية رغم بساطتها إلا أنها تدل على مسألة مهمة قلما يتنبه لها الكثيرون، وهي أنهم يخلطون بين الإسلام وبين أهله، أتذكر الآن قضية أضحت شائعة بين بعض المنابير الإعلامية التي تبث سمومها في المجتمعات، إذ أضحى الكثير منها تسلط الضوء على ما يمكن أن نطلق عليه، “فضائح رجال الدين”ـ حتى إنه غدا شائعا أن تصادف عينيك تلك العناوين المستفزة، وذلك بغرض تنفير الناس من هؤلاء، وجعلهم يفقدون ثقتهم بهم وبعدها يفقدون ثقتهم بالدين، إذ ذلك متلازم، فيضحون يرددون هذا هو الإسلام الذي تتحدثون عنه!.
هذا لا يعني أن المسلمين يجوز لهم فعل ما يريدون، بل هم صورة الإسلام، إذ ينبغي أن يمتثلوا أوامره ويجتنبوا نواهيه، لكن ذلك لا يعني أنهم هم الإسلام فإذا فسدوا فسد الدين، وإنما من أراد الدين فعليه باقتفاء أثره في المصادر، وليس أخده من تصرفات الناس الذين غالبا ما تاخذهم أهواؤهم.
أول مصدر للدين هو القرآن الكريم، وباعتبار أن السنة هي تبيان له فهي ثاني المصادر، ولذلك على كل من أراد معرفة الإسلام، عليه أن يقرأ القرآن، لكن القرآن وحده لا يكفي كما هو معلوم، لأن كثيرا من الأمور لم تدكر فيه وإنما ذكرت في السنة، وبعضها أجمع عليه العلماء، والبعض الآخر قاسوه على بعض.
هذا الخطاب التنويري الجديد على اختلاف تنوعاته، فهو في الأخير هدفه واحد، وهو أنه ينبغي علينا أن نميز بين الوحي وكلام الناس، فإذا كان أولئك اجتهدوا لزمانهم فنحن أحق بأن نجتهد لزماننا، وهذا يقتضي أن نعتمد طرقا جديدة في التعامل مع القرآن، بمعنى أن ما أنتجه أولئك لم يعد صالحا لزماننا، حتى أن بعض متطرفيهم يذهب إلى أن أحكام القرآن نسبية ظرفية، وليست مستمرة لأزمة لكل جيل، باعتبار أنها لم تعد تصلح لزماننا الذي أصبح يتجدد كل خمسة عشر يوما أو أقل.
وهذا تضليل كما لا يخفى على من لديه أدنى بصيرة بالدين، سأبين أمرا مهما يضحض ذلك بعجالة:
الشريعة الإسلامية هي آخر الرسالات وهي وحدها من لديها فقه، بمعنى قانون، وهذا الفقه قابل للتجديد، وبذلك فهو صالح لكل زمان ومكان، سأوضح كيف ذلك، في مجال الفقه نقسم بين العبادات والمعاملات، فالعبادات لا تتغير، ولا يمكن أن تتغير، لكن فقه المعاملات هو مجال واسع للرأي والاجتهاد، لكن من حق أي أحد أن يسأل إذا كان القرآن هو المصدر الأساس فمن أين أتى هؤلاء الفقهاء بكل هذه الأحكام الجزئية وهي غير موجودة في القرآن؟
هناك ما يصطلح عليه بأصول الفقه، ويمكن أن نطلق عليها آليات إنتاج الأحكام الفرعية، لكن هذه الأصول هناك ما هو متفق عليه من جميع العلماء، ولا يصح لأحد إنكاره، وهناك ما هو مختلف فيه، الأصول المتفق عليها أربعة، القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، والقرآن أصل لهذه الثلاثة الأخيرة، بمعنى أننا جعلناها أصولا بدلالة القرآن، فبذلك نعلم أن جميع الفروع إنما أصلها القرآن، ولقصر التدوينة لا داعي لذكر الآيات الدالة على ذلك الآن، لهذا يجب أن نعلم أن كل هذه الأحكام الجزئية وإن لم يعلم لها دليل الآن إنما هي مردها ومرجعها في الآخير للقرآن.
تعاملنا مع القرآن بهذه الطريقة، لا يعني أننا لا نستجيب ولا نؤمن بالعلوم الحديثة بل على العكس من ذلك، فهي علوم مهمة ولا بد منها، لكننا لا يجب أن نعتمدها هي الأصل ونلغي هذه العلوم، كما يقول من ينادي بأنسنة العلوم الدينية، فتكون النتيجة أن يخلصوا إلى إنكار أحكام القرآن، وذلك لا يرجع حقيقة إلا لضعف المسلمين اليوم، فهم بذلك يريدون أن يتوسلوا بكل الطرق لأن يطوعوا أحكام القرآن للخطاب التنويري الجديد، حتى يرضى عنا أولئك، وإذا لم تطوع فلم لا ننكرها!.
هذه التدوينة حاولت أن أقدم فيها بعض الخطوات، بشكل سلس وبسيط، حتى تنير الطريق لهؤلاء الشباب الكثر الذين يتباهون بالتمرد على كل ما أصبح يمت للإسلام بصلة، وينتهجون منهج أولئك الذين يذرون الرماد في العيون من أجل التضليل عن حقائق الإسلام الناصعة.
وهنا يجب الإشارة إلى مسألة مهمة، وهي أن المستشرقين ظلوا يدرسون الإسلام قرابة قرن من الزمان أو يزيد ومع ذلك لم يظفروا بطائل من ورائه، فوجدوا أن صرحه محكم البناء، لذلك لم يسع بعضهم إلا أن يعتنقه.