هناك حقيقة لا ينكرها أحد في العالم العربي، وربما في العالم الإسلامي برمته لم لا!، مهما حاورت أحدًا ما حول أسباب تردي أوضاع المسلمين، سيكون أول ما يذلق به لسانه وهو يجيبك، إنهم تخلّو عن القرآن، ثم إذا استمر الحوار سيبدأ تدريجيا ينحوا منحى الاجترار.. المشكلة لا تكمن في قراءته بل في محاولة فهمه وتدبره، أو أنه إذا كان ممن يمسكون العصى من الطرف سيقول لك إنهم لم يطبقوا حكم الله، ومقصوده واضح آنذاك “قطع يد السارق، رجم الزاني المحصن، قتل المرتد….” وغيرها من الحدود، والتي ربما قد لا تمثل بمجملها ثلث القرآن!..
إنني من خلال هذا التمهيد، أريد أن أشير إلى صنفين من الناس، لن تخطئ وجودهم داخل الوطن العربي أو الإسلامي، إذا حاولت أن تناقش قضية تخلف المسلمين، هناك نوع سيبهرك ببهرجة كلامه، وهو ينظِّر لك حول أسباب تخلف المسلمين، ويضع لك خطط التعامل مع القرآن، لكن كلامه ما إن ينتهي حتى يذهب أدراج الرياح، كلام غير متين، بل في الغالب ينحو منحى التنظير، يسوق الأمثلة من هنا وهناك، يستشهد بقصص الصحابة والرسول صلى الله عليه وسلم، كما يستأنس بقصص مشاهر الغربيين، لكن كلامهم يظل حبرًا على ورق، عندما تأتي لتطبيقه على أرض الواقع فإنك لن تجد لذلك مسلكاً…
أما الصنف الآخر، فهم أولئك الذين لا يهتمون لا بالتنظير ولا بالتخطيط، بل يجمدون على ما تركه السلف “حسب رأيهم” من أقوال ومناهج في التعامل مع القرآن، رغم أن كلمة السلف كلمة فضفاضة تحتمل أكثر من معنى، هم وإن كانوا يتفقون مع الفئة الأولى وهذه حقيقة لا ينكرها أحد كما أسلفت، بأن سبب تخلف المسلمين هو تركهم للقرآن، لكنهم يفهمون بأن ترك القرآن يعني ترك حدود الله، وبالتالي فالرجوع للقرآن يعني تطبيق حدود الله” قطع يد السارق… إلخ”.
لكن حقيقة هناك مشكلة جوهرية مهما اختلفت الطوائف في التعامل معها، يبقى أنها مشكلة عويصة تحتاج إلى حل، وهي كيفية التعامل مع القرآن، عند البحث عن العلماء المصلحين، وأقصد المتأخرين منهم، سنجد جلهم بل كلهم نادو بالرجوع إلى القرآن، لكننا سنجد قلة منهم من فهموا الخلل ونادو بهذا السؤال: كيف نتعامل مع القرآن؟ في حالة ما إذا رجعنا، سواء وُفِّق أو أخفق من نادى به إلا أنه يبقى حسب رأيي المتواضع أن هذا هو سبب الأشكال الحقيقي، لأن ما من مسلم إلا وسينادي عند تقهقر وضعه بالرجوع إلى القرآن، لأنه يعتقد اعتقادًا جازمًا بوعي منه أو بدونه بأن سبب خروجه من مأزقه هو الرجوع إلى الكتاب الذي أخرج أسلافه من مأزقهم، لكن لن ينتبه للسؤال الجوهري في القضية، وهو في حالة إذا ما عاد كيف سيتعامل مع هذا الكتاب؟…
هناك عالمان مصلحان كتبا تحت هذا العنوان، كيف نتعامل مع القرآن، الفقيه والمفكر، الشيخ يوسف القرضاوي، والمفكر الأديب محمد الغزالي، رغم اختلاف أجوبتهما على هذا السؤال، واختلاف كذلك جهات بحثهما للإجابة عليه، إلا أننا وعند التعمق والنظر نظرة شمولية في مشروعهما الذي نادوا به ربما سنجد أنهما في الأخير يناديان، بحقيقة واحدة، وعند ذلك سنجد هناك من شاركهما في المناداة بهذه الحقيقة، هناك ملاحظة بسيطة قد تكشف لنا ذلك، فعلى سبيل المثال نجد أن الشيخ القرضاوي أول بحث افتتح به كتابه، هو: أن هذا الكتاب إلهي المصدر..
تريث أعرف بأن هذه حقيقة لا ينكرها أحد، لكن ليس الكل يستحضرها عندما يتعامل مع القرآن، منذ مدة تعرفت على مشروع شبابي ريادي، هو مشروع قد نقول لم يكتب له النجاح الذي كان يطمح له مُنظِّره، إذ باغتته الوفاة وهو لا زال يضع اللبنات الأولى لمشروعه الجديد، بعدما كان قد أمضى عمره، مع تلك الفئة التي سبق وتطرقت لها، إنهم أولئك الذين ينخدعون بالشعارات البراقة، والمصطلحات الخاطفة، والخطط المتقنة، لكنها تظل مجرد بهرجة يحسبها الضمآن ماء حتى اذا جاءه لم يجده شيئا..
إنه الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله، ومشروعه في الحقيقة هو ليس شيئا جديدا أتى به، وإن كان ربما هو أول من كتب فيه ووضع له اللبنات الأساسية على شكل منهج مرتب من خلال كتيباته الموسومة تحت عنوان “من القرآن الى العمران” منهج الشيخ وغيره من العلماء الربانيين الذين سبقوه في الميدان منهم العالمان السالفا الذكر، يقوم على حقيقة مهمة، وهي التعامل مع القرآن بمنهج الصحابة، كل من يقرأ السيرة سيجد أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعقدون حلقا للذكر، سواء داخل أسرهم أو أحيائهم، أو عملهم إذ نجد في كثير من المواقف مر النبي صلى الله عليه وسلم بقوم وهم يتدارسون القرآن، هذا المنهج هو الذي تنبه له هؤلاء العلماء، هو منهج تدارس القرآن..
لكن قبل أن نصل لهذه المرحلة، هناك أمور لا بد من معرفتها حتى نثمن هذه الفكرة في التعامل مع القرآن، عندما أشرت إلى أول بحث افتتح به الشيخ القرضاوي رحمه الله كتابه، كان بودي الإشارة إلى قضية مهمة، اتبعها هؤلاء العلماء حتى اهتدو إلى هذا المنهاج في التعامل مع القرآن، وهي أنهم تفطنوا إلى أن هذا القرآن هو رسالة، وحسب المدارس الأدبية، فإن الرسالة لها أربعة أركان المرسِل، والمرسَل اليه، والرسول، وموضوع الرسالة، وقيمة الرسالة تزداد بقيمة المرسِل، ولذلك فنحن إذا أردنا التعامل بجد مع هذه الرسالة فيجب أن نتعرف على المرسِل، الله، وربما لهذه الحقيقة يشير الشيخ القرضاوي بأن القرآن إلهي المصدر، إنه يريد أن يلفت انتباهنا إلى أهمية هذه القيمة العظيمة، حتى إذا ما عرفنا بأن من يحيط بكل شىء علما، هو مرسل هذه الرسالة فإننا بدون شك سنقرأها بلهفة، ونبحث بين ثناياها عن مواطن دائنا، علَّنا نظفر بالشفاء العاجل منه..
أما معرفة مراد الله من كتابه فإنه يختلف من شخص لآخر، لأن القرآن قطعي الثبوت لكنه ظني الفهم، بمعنى أن ما نفهم لا يمكن أن يكون بالضرورة هو مراد الله من كتابه، وهذا حقيقة فيه رسالة إلى تقبل كل الآراء والمناهج الأخرى وإن بدت أنها مخالفة لما نعتقده، مهما تباينت وتباعدت مناهجنا في التعامل مع القرآن لأننا بدورنا لسنا موكلين بحمل الناس على طريق واحد..
