على الرصيف تجتمع كل الأشياء، وفي آلاف الوجوه العابرة ترتسم كلّ الحكايات التي لم تتجاوز أصحابها، ترى عالماً مُختلفاً، ومُتجانساً بشكل غريب، ففي كلّ وجه حكاية خاصة، ولكن كلّ الوجوه تشترك في شيء ما، يُشبه حاجة البشرية للماء مثلاً.
في هذه الحياة الدُنيا، نحنُ في محطةِ عبور، يوجد من يستعد للسفر الطويل، ومن وصل للتو من رحلته الشاقة، ومَن يودع أهله وأحبته، ومن يقفُ وحيدا مع حقيبته وظلّه، ويوجد كذلك مَن أُكره على السفر والهجرة لسبب ما، وآخر يأتي كل يوم إلى هذه المحطة ليتأمل ويتألم من رؤية المُسافرين وهو لم يستطع -إلى الآن- جمع تكاليف تحقيق “حُلم الهجرة من الوطن”!
في الوداعات تقول الوجوه كل شيء يعجز اللسان عن لفظه، وتُصبح الأشياء أكثر وضوحاً وقيمة ومعنى، وتتحول الدقائق للحظات، تُسرع في المُضي لتُلقي صاحبها بعد ذلك في “أبدية الشعور” باللاشيء وكل شيء تماماً، يبدأ بتذكر تفاصيل صغيرة، لا يدري كيف حُفظت في ذاكرته التي كانت لا تحفظ ما هو مُهم عادةً كموعد تناول دواء الضغط أو أين وضع مفتاح السيارة؟!
تحضرهُ تفاصيلٌ كثيرة، كلحنٍ قديم، أو رائحة عطر، أو صوت شخص مُعين، أو حتى مشهد لأشجار حول بيت ريفي قديم، يغيبُ في تلك التفاصيل، وينتزع نفسه من وطأتها بالتدريج البطيء، وينتبه للمكان حيث هو الآن، يجلس بين غرباء، وجوههم تبدو رمادية، وعيونهم كأن بَريقها قد جفّ تماما، بعضها ما زالت تلتمعُ بدموع لا شكّ بأنها ذُرفت قبل قليل في تلك المحطة.
في ذلك المكان، المُثقل بصمت الراحلين والمُودعين، يوجد أطفال وشباب وكبار في السن، نساء ورجال، منهم مَن يجلس وحيدا ذاهلا عن كل شيء، ومنهم من يجلس مع أهله، ولكنهم وللوهلةِ الأولى يبدون وكأنهم شخصٌ واحد؛ لهم ذات الملامح، وذات الشعور!
الصمت هي اللغة التي يتقنها مُعظم الراحلين، لأنها فيما يبدو تُغني عن كلّ الألفاظ والكلمات، والحقيبة هي الرفيق الحقيقي لكلّ الجالسين بانتظار الوصول أخيرا للمحطة التالية..
الراحلون عادةً يأخذون معهم أهم الحاجيات، ويستغنون عن معظم أشيائهم الأثيرة، حتى لا يُثقلون على أنفسهم بما لا حاجة لهم به، وهل هُناك فرق بين ما هو مُهم وأثير؟
كم من راحلٍ لم يستطع اختيار ما يتوجب عليه أخذه أو تركه؟
وكم من جالسٍ في “آلة العبور” تلك، يُحاول جاهداً عدم التفكير بتلك الأشياء التي اختار تركها وراءه؟ كصندوق يحتوي على عدة أشياء فقدت أهميتها منذ زمن، ومجموعة أوراق قد نسي بالتحديد عن ماذا تتحدث؟ وزجاجات عطور فارغة، وقميصٍ تضائل حجمه وصار كخرقةٍ بالية..!!
قد يأخذ الراحلون معهم الكثير، ليسَ من حاجياتهم، بل من لا وزن له، ولا يُحمل إلا في أعماق صاحبه، وكيف لمن أراد الرحيل أن لا يحمل في أعماقه شيء سوى ذكريات بعيدة؟
ذكريات تبدو كحلم (لن يتحقق أبدا)، وصور باقية في ذهن صاحبها يأبى نسيانها أو طمسها أو تركها هُناك حيث المكان الذي غادره قبل ساعاتٍ قليلة؟؟
الراحلون وظِلالهم الطويلة التي تمتد في المسافة ما بين المحطة و”آلة العبور”، تبدو الظِلال وكأنها شخصٌ آخر يستعجل الانتهاء من عبء الوداع، ويُحاول جرّ صاحبه نحو النهاية..
الخَلاص.. المشي نحو الأمام دون التفات للوراء، حيثُ الذين لا يملكون سوى رؤية ذلك الراحل وهو ينتزع نفسه منهم، ويختار السفر نحو مكانٍ، قد لا يعرف فيه أحد! وقد لا يتعرّف فيهِ حتى على نفسه.. ولكنه اختار السفر، اختار الرحيل عن كل شيء إلّا عن ظِله والذين وقفوا لوداعه..
الذين يقفون في محطة “الوداعات واللقاءات”، يختلفون بحسب سبب الوقوف هُناك؛ فمن كان يُودع مُسافر، تجده وكأنه يفقد جزء منه، ومن كان يستقبل عائد من سفر كان كالذي وجد ضالته.. ولكنهم للوهلة الأولى يبدون مُتشابهين في كل شيء، في لمعة الحزن أو الفرح، وفي عجز الوجوه عن كل شيء إلا الصمت..
رائعة، هذا أول تعليق أتركه هنا، للتو عرفت عن المدونة وكانت مصافحتي الأولى رائعتك هذه،
أمررت بتجربة أن تشعر بشعور ثم تجد من يكتبك أنت بكلماته هو؟
لا أعلم إن شعرت أو مررت بهكذا تجربة يا هاشم ولكني أعلم أنك جعلتني أشعر بها،
حرف رائع، أسلوب سلس، حقاً أنت مذهل ,
نوره محمد حمد .