كنت يومها وصديقاتي غارقين في لب الطفولة، مغموسين في السعادة قلبي، راكضة بين حقول البراءة.. كل همي آنذاك أن أشبع رغبتي في اللعب فهذا حقي وأنا بنت السابعة من العمر.
كانت عين الشمس قد فتحت جفونها فأضفت على المكان دفئا وضياءً خلابا، غير أن نورها لم يصل إلى هناك حيث كنت ترقدين، فغيوم الرحيل سبقتها وغطت سقفك، وأعاصير الحزن حطت رحالها ببيتك ودارت به رحى الموت وكنت أنت الحبة التي تطحن..
لم أعلم خلالها ما الذي يحدث؟ وما سيحدث؟ فكل الذي أحسسته بعض الألم في ذلك العضو السجين خلف أضلعي، وكيف لي أن أحزن وأنا لم أتذوق طعم حنانك ولا عطفك فسبع سنين لم تكن كافية حتى لأتعرف على ملامحك، أو أحفظ قسمات وجهك فأيادي المرض قد نشبت أظافرها في جسدك لتأخذك مني مع ميلادي فأصبح وأمسي وأنا يتيمة أم وأمي حية.
رحلت عني أماه ولست أنساك رغم أنه ليست لي ذكريات معك فرحيلك كان كافيا ليغتصب ذاكرتي الهشة ويسلبني ذكرى عقدي الأول بأكمله -وقد أستثني واقعة أو واقعتين تكاد تكون أحداثها غير مكتملة التفاصيل في رأسي- حتى أني لا أملك ذكرى عن وجهك الجميل فبت أتفرس الوجوه علّني ألمح طيفك ولكنك خلقت فريدة وحيدة لا شبه لك ولا أربعون تشبهك..
وكم ليلة حام فوق رأسي عهن الذكريات ولكن هذا القلب يأبى إلا العصيان فمازلت أصارعه وأصارعه ليذكرك غير أنه يصرعني في كل مرة، وإن جاد فلا يجود إلا بخيال عابر ألمح فيه طيفك يدفع عنّي الأذى. أتمثلك -وإن لم أذكرك- عظيمة كريمة، إن قلت صدقت، وإن وعدت وفيت، أتمثلك تدفعين بي نحو العلم دفعا كأم مالك ترضعينني المجد، إن غبت عنك يصبح فؤادك فارغا كفؤاد أم موسى لولا أن ربط الله على قلوب الأمهات، بل أتمثلك آسيا في حنانها، ومريم البتول في رضاها بقدر الله…
ببعدك أماه لست إلا عنبرا بلا روح، فراشة في شرنقتها، وزهرة لم تنفتح بعد، لؤلؤة في صدفة الصدفة في أعماق بحر البحر كأنه ظلمات ثلاث، أو علّني نجمة اختارت الأفول خلف أفق الحياة، لست أدري إن كنت حقا حية بل أظنني ميتة وسط ركام الأحياء فأحابيل الشوق تأسر لبي وتذيقني شظف العيش، تعصر الروح لتتركني سجينة هواك الراحل والهوى سجّان القلوب.
رحلت عني أماه ولست أنساك رغم أنه ليست لي ذكريات معك فرحيلك كان كافيا ليغتصب ذاكرتي الهشة ويسلبني ذكرى عقدي الأول بأكمله.
أماه… أشتاقك وأشتاق صوتك الذي لا أذكره، بل وأشتاق وجنتيك لتكون مسرح قُبُلاتي، أشتاق فيك صدرك لأجعله وسادتي، إن الحياة اشتدت أعاصيرها، أشتاق ذراعيك يفترشها جسدي إن أعياه يوما الهم، أشتاق كفك تمسح دمعي إن أنزلته جفوني، أشتاق فيك كل شيء تلك الضحكة والبسمة والقُبلة التي لم أنعم بها يوما أو علّني نعمت بها وخانتني الذاكرة..
الذاكرة هاته الأخيرة التي لعنتها آلاف المرات فهي التي حرمتني ذكرياتي معك وجعلتني أعايش الأسى أمام أقراني حين يتفاخرون بحنان أمهاتهم وأجلس أنا بينهم كصغيرة لا تفقه الحديث، أو كبكماء لا تستطيع الخوض في غمار الكلام.
أماه أتراك تعلمين أني رغم نجاحاتي لست بناجحة؟! فالمميز في النجاح أن نحس بطعمه، نتذوق حلاوته غير أني مع كل نجاح حققته لم أتذوق لحد الساعة تلك الحلاوة لأنك لست معي لتكوني أول المهنئين، لست معي لتهمسي في أذني قائلة: “هديتك… خذي، أنظري، هل أعجبتك؟!”..
لست معي لأرى ابتسامتك الحانية ونظرتك إليّ التي تشع فخرا فما تزيدني إلا إصرارا وعزيمة على المضي قدما في موكب الناجحين، لست معي وهذا كاف لأن أحرم من حلاوة النجاح، بل إني حين أحقق نجاحا لا أزداد إلا ألما وهما فعاتق التشجيع لنفسي يقع كله على كاهلي فأراني أصنع الدوافع، وأسلي النفس، وأنسج الحكايا لمستقبل مشرق فلا أجدني في نهاية المطاف إلا صغيرة أنهكها الهم وخارت كل قواها.
أماه.. حين غادرتني التف الجميع حولي فأنا وردتك الأخيرة وصغيرتهم المدللة، لم يتركوني أعايش الأسى لوحدي بل أغدقوني عطفا وسقونني الحب، لكن ما علموا أن فراقك أوقد نارا للحزن بكياني، سكين شقّ دهاليزا للوجاع بقلبي، قداحة أشعلت شواظ الشوق بجوارحي…
ما علموا أن صمتي ما هو إلا ضجيج لا يحتمل بداخلي، وبسمتي تلك ما هي إلا عباءة يتوارى تحتها حزني… ما علموا أن كل احتياجاتي: حضن أم يلملم شتات عواطفي، وتمريرة كف منها فوق كتفي تبدد مخاوفي، وقبلة تطبعها على وجنتي تنزرع بها الحياة في جسدي…
أماه.. قد عُلّمت في صغري بأن الحياة مكتوبُ ربي وما نعيشه خطّ بريشة الأقدار. وقد شاءت هاته الأخيرة بأمر بارئها أن تفرقنا لتترك حياتي جاثية على ركبتيها تصارع شللها المدقع في أحايين، وفي أحايين أخرى تحبو وتسقط، تسقط وتنهض، متقلبة بين سندان التحدي ومطرقة اليأس، والجميل فيها أنها تحاول أن تجعلني مثلك تماما لأكون شبيهتك بل أربعون تشبهك…
فنامي بسلام أماه فإيماني حتّم عليّ الرضا بقدر الله ورغم ما أعانيه -ورحيلك السبب- إلا أنني متمسكة بشراع الحياة سائرة في سكة التفاؤل وسط موكب من أمل يحثني على المضي قدما تحت لواء عباد الرحمن علّني بذلك ألقاك يوم يحلو اللقاء.