عندما تحاول عبثا التمسك بالحياة، ستجد بعض من تحبهم لهذه المحاولات بالمرصاد، يخطفون منك الابتسامة، يداعبون أهم الأحاسيس لديك قبل قتلها، ثمّ يقومون بهواياتهم المفضلة، تلك التي تجتمع في وصف واحد وإن تعددت الأساليب: التفنن في قتلك من الداخل.
من أتحدث عنهم لن يكونوا غرباء لا ترغب في رؤيتهم، وإنما هؤلاء الذين يبادلونك الإعجاب بين ملايين البشر، هؤلاء الذين يكنون لك الاحترام أمام المجتمع بكافة شرائحه، هؤلاء الذين بكيتَ معهم تارة، وضحكتَ معهم في الكثير من التارات، هؤلاء الذين قاسمتهم كل المحبة والحب مجتمعيْن، تراهم اليوم يشحذون سكاكينهم ويهوون على روحك بكل ثقلهم، والأغرب هم لا يقتلونك دفعة واحدة، وإنما سلبوك روحك قطرة بقطرة، ورمقا برمق، هؤلاء الذين كانوا بالأمس القريب أحباء لك، صاروا اليوم أعداءك دون أن تصدق بالفعل ما يحصل لكَ.
العيش يتلاشى أمامك، تضيق بك الحياة، تتباطأ دقات قلبك حتى تحسبها أنها قد توقفت، ثم تأخذ نَفَسًا بصعوبة بالغة، وتكمل الحياة ببلايين الأسئلة التي تغزوا روحك الفقيدة، هي حالة من الذهول، حالة تخرج الإنسان من الزمن والمكان معا، حالة تفقد فيها السيطرة على أطرافك وحواسك، فما كنتَ بالأمس القريب تعتبره مصدرا لحياتك وسعادتك، صار اليوم موتا مدمّرا بلا روح.
ذاك الطائر الأسطوري ذو رأس بشريّ، ذا وجه أبيض مبتسم، وشعر أشقر رفيع اللمعان، وعيون بنية بريئة يطير بأجنحة تشتعل فيها النيران بالكامل، وهذا بالذات ما يجعله من الأعاجيب التي تجعل العقل لا يتعدى كونه آلة مكتبية مهترئة لا مجال لها في جسد كهذا، وفي تلك اللحظة الفارقة، تموت المشاعر منتحرة، لتسيل الدماء على ما بقي من الروح بلا غدق، إنه ما يسمى بالأرق.
نعود إلى تلك اللحظة، إلى ذاك الموت الحيّ، إلى ذاك الجسد المشتعل الجناحيْن، نعود فنتذكر البدايات والنهايات معا، نعود إلى تلك النقطة التي لا تعترف بعودتنا، نعود إلى بداية المعركة الوجودية، إلى نهاية آخر أنفاسنا الملحمية، إلى ذواتنا التي لم تعترف يوما بهذا الفضاء، إنه الغطاء الذي لطالما لم نصدق وجوده حتى وجدنا أنفسنا تحته في ذاك البئر، فسدّ علينا بإحكام لا نظير له.
من بين كافة الأجيال هناك نحن، وبين كافة الموتى هناك نحن أيضا، نحن الأموات الأحياء والأحياء الأموات في سخرية واضحة للموت من الحياة، من بين كل مزايا لحظات العراقة نجد أنفسنا قد تحولنا إلى خرق بالية لا صلاح لها سوى على جبين آخر المفقودين، هي صرخات الروح على وقع مطرقة التقاليد والواقع بغطاء جلاء الأحزان وتحت مسامع تستمتع بترانيم البكاء.
هي التجارب الروحية خالصة أمام ذاك الشعور الوحيد الذي يحرك البشر، إننا على الحافة نكاد نهوي، وما أصعب لحظات الغرق لمّا تشدو بآخر الكلمات من عمقك.
تستقبل اليقين بكافة أفراحك وهو متوجه نحو أحضانك، تلعب دور الغريب عندما تؤكد حقائق لا مجال لتجاوزها، تنفض على عقلك الغبار بعد خذلان طويل، تعيد لنفسك المهزوزة سيطرة بطيئة، تعادل وتوازن روحك تحت ضربات الألم، تسترجع بعضا من آمالك المخنوقة، ترمم ما كسر برائحة الانتقام، تسامر غربة حلت عليك صدفة ودون سابق إنذار، تغرف من ماضيك لتسكّن ما بقي من أنينك، ترتشف لحظات صارت سرابا، تغازل ما يوجد في الأعماق محاولا نسيان ما ألمّ بك، تتعالى أصواتك المزعجة وذاك الضجيج الحاد بداخلك، تصارع ذكريات صارت بلا فائدة في ضمير يحافظ على حيويته رغم كل ما مرّ به، تتنهد، تجمع ثوبك الذي مزقته ذئاب بشرية لا ترحم، وتتابع السير بلا التفات إلى الخلف.