في مانشستر بالمملكة البريطانية المتّحدة قامت دار نشر (كوما برس) بنشر أربعة مختارات أدبية قصيرة كجزء من سلسلتها التّي سمّتها [بين العلم والأدب] وبغرض المزج بين العِلم والأدب، طَلبت مِن كلّ عالِمٍ أن يقوم باقتراح بعض المواضِيع البحثية، ثم يقوم كل أديبٍ باختيار أحدها، مِن أجل تحويله إلى قطعة أدبية، ثم بعد ذلك يُقدّم الباحثون إرشاداتهم الفنيّة، ويُراجعون مُسودات تِلك الأعمال، ثُمّ يقومون بكتابة خاتمة توضيحيّة تفصيلية للمعلومات العِلميّة، وهذا ما أدّى إلى إتاحة الفُرصة للعلماء الذين يَرغبون ويشعرون بمقدرتهم على خوض غمار كتابة الأدب القصصي لكنّ كُثرة انشغالاتِهم أعاقَتهم عن تحقيق تلك الرّغبة، إلا أنّ مبادرة دار النشر البريطانية فَتحت لهم أبواب المشاركة كفريق واحدٍ ومُتكامل مع كُتّابٍ محترفين.
فعلى سبيل المِثال قام أحد العلماء بدراسة إمكانية تحسين تكنولوجيا النّانُو للدروع الجسدية التّي يُستفاد مِنها في مجال التطبيقات العسكرية، حيث قام الكاتب بتأليف رواية بعنوان “دون دِرْع حامٍ” تحكي عن مجتمعٍ مستقبليٍّ يمتلك فيه الطلبة المنتسبون إلى مدرسة نخبوية زِيًّا موحدًا ذكيًّا، يَعمَل على مُعالجة ومداواة جروحهم، وعليه قامت دار نشر “كوما برس” بإضافَة هذا العمل في مجموعة مختارات أدبية في عام 2009، تحت عنوان “عِند التحوُّل”.
في مِنَصّة تبادل العلم والترفيه التّي تديرها الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم بواشنطن، يقوم العلماء بالإجابة على تساؤلات الكتاب الروائيين، فمثلاً قد يَحتاج الروائي مِن أجل تفاصيل روايته إلى معرفة نوع الأجهزة التي يستخدمها الباحث في مجاله، فيقُوم بالاتّصال بالمنصَّة لإشباع فضُوله المعرفي الذّي يُعزِّز به عمله الأدبي.
نُعرِّج قليلاً إلى الولايات الأميركية المتحدّة، ونحطّ برِحالنا عند الكاتب الشّهير “دان براون“ صاحب سلسلة مؤن الروايات الغامضة على غرار: حقيقة الخديعة، الرّمز المفقُود، ملائكة وشياطين، شيفرة دافينشي والجحيم، فالمتابع لمسيرته الروائية ونجاحات أعماله الأدبية التّي حُوّل بعضها إلى أفلامٍ سينمائية، يتساءل بشكلٍ ملحٍّ عن سرّ هذه النجاحات المُبهرة، فيَكتشف أنّها نِتاج معلومات علمية وتاريخية دقيقة مبثوثة بين سطور رواياته، إلى جانب الوصف الدقيق والسّرد الرّشيق عند التّطرُّق للمتاحف والمُدن وكذلك شوارِعها التّي احتوت أحداث قِصصه المُشوِّقة وكأنّها تنقُل القارئ في رحلة سياحية مرئيةٍ..
وبعد تحقيق وتنقيب عن المقادير التّي يعتمدها الكاتب الأميريكي دان براون لطبخ أعمالِه الروائية نتوصّل إلى حقيقة مُدهشة، تتمثّل في مؤسّسة بحثية كُبرى تقِف خلفَه وتُديرها زوجته بليث أستاذة تاريخ الفُنون برفقة أساتِذة أكاديميين وباحثين مختصِّين في عدّة مجالات، الذّين يَسهرون على توفير المعلُومة العِلمية لمزجِها مع موهبتِه السّردية مِن أجل الصياغة النهائية في قالبٍ أدبيٍّ.
هذه الأعمال الإبداعية لا يُمكنها أن تكون ذات فائدة دُون تزويج الأدب بالعِلم، مِن خلال استلهام الأدب الروائي والقَصصي مِن وحي العِلم، وحتّى يتِمّ تحرير وُحُوش الابتكار الكامِنة مِن قُيود الرّكود، يجب على الأديب تحويل أبحاث العالِم إلى تصوّرات تكون قريبة مِن الحقيقة والمنطِق مَع إضافة ما يُجسِّد التّبِعات الاجتماعية والأخلاقية التّي قد يتغاضى عنها الباحِث، وهذا التنسيق والمَزج لا ينجحان إلا عندما تلتقي العُقُول..