الحياة أقصر من أن تعيشها في التفاهات، أقصر من أن تضيعها في اللاشيء. فهي ليست إلا دورة واحدة: يوم لك، ويوم عليك وتنتهي الدورة، ما فعلته اليوم حتما تُجزى به غدا. كل شهقة، كل زفرة، كل حركة، وأدنى سكون محسوب عليك، فستسأل عنها واحدا واحدا، فما بالك تضيّع العمر في اللاشيء، تفني حياتك في فراغ، وتمر أيامك بلا هدف منشود؟!..
آن الأوان أن تخوض تجربة الولادة وتحدد هدفا لتهُز شباك مرمى انتظرك طويلا، فلم تخلق عبثا يا إنسان بل لأجل حياة وإعمار، وإنك لخليفة الله في أرضه “وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة”، فكن الخليفة الأفضل، (سدد وقارب لا تخف) فالسهم الذي لا يصل للقمر حتما سيصيب النجوم، ويكفي المؤمن شرف المحاولة إذ أن النوايا خواتم الأعمال “فمن نوى صالحا لحقه الصلاح، ومن نوى الفساد له من الفساد نصيب”، وحين تحدد هدفا واضحا وتسعى لتحقيقه بل وتمنحه كل لحظاتك، كل اهتمامك، تعيش في عزلة عن الحياة برمّتها فقط لتحققه، وتؤجل مصالحا هامة في سبيله..
تمر الليلة إثر الليلة وأنت تطيل الرّنا للشباك، تتساءل وشواظ الحيرة يلهب الفؤاد: أتراني أسدد الهدف؟ !أتراني أهزك ياشباك؟ !تتذوق مرارة الاجتهاد، ويحرقك جمر الانتظار، تمر اللحظات ثقيلة كثقل هواء يوم صيفي مغيّم، أليمة كألم المخاض تماما فكل نجاح ولادة جديدة..
تمر الليال حالكات طوال ولكن لابد لسديم الصبح أن ينفلق، لابد للفجر من أن يشعشع نوره، ولابد للشمس من أن تغادر جحرها بعد أن أرهبها السواد، ها هي الكربة تنجلي، وها هو الهدف يسدد، ها هو ذا النجاح المنتظر تحقق واكتملت الولادة لتصنع حكاية: جد واجتهاد، عزيمة وإصرار، إخلاص وتفان، حكاية تكتب بعرق الجبين على قرطاس الزمن..
قبل تسديد الهدف ستكون في أشد مراحلك قوة، ولكن حالما تُهزّ الشباك ستضعف تنكسر وتجد نفسك سقطت سقوطا حرا من القمة إلى السفح، لأنك ستتذكر كل ليلة، كل لحظة، كل ما عانيته.. وستشق دهاليز الفراغ طريقها إلى قلبك، ستكون ككرة جوفاء لا يملؤها إلا فراغ من هواء.. فتدمع العين وتتسارع ضربات القلب وترتعد فرائسك ولابد لك من حضن يلملم شتات روحك، لابد لك من أحد يضمك ليهدأ من ارتعاد جسدك ولا أحسبه إلا حضنا من حضنين:
حضن أم دافئ يشاركك البكاء ولكن حنانه يدفع عنك الرّوع، أو حضن أب قوي يسكب في كأس ضعفك عزيمة تعيدك للقمة..
لأنهما يفهمان سبب بكائك فلقد شاركاك كل لحظة من لحظات الانتظار والتخطيط والجد والاجتهاد، ومسحا في مرات عديدة لآلئ العرق من على جبينك، لأنهما يعلمان ما قاسيته لذا كان بكاؤك متوقعا.. ولكن ماذا لو لم تجد حضنا من الحضنين! ماذا لو وجدت نفسك وحيدا بين وجوه تتساءل عن سبب بكائك في حيرة؟! ماذا لو كان بين الوجوه المراقبة من يستهزأ في قرارة نفسه بدموعك يحاول أن يكتم الاستهزاء ولكن عينيه تفضحانه وبسمته الشامتة تخونه؟! ماذا لو كنت يتيم الأبوين؟! لا حضنا من الحضنين يضمك؟!..
إذا كنت يتيما وحققت نجاحا ستسقط سقوطين لا محالة: سقوط من القمة إلى السفح، ثم من السفح إلى درك الضعف ولعل السقوط الثاني أشد بكثير من الأول، لأنه يرمي بك في دوامة الذكريات فتطحنك رحاها في لحظة، ويضعك أمام محنة الفقد من جديد، سيرسم أمام ناظريك احتمالات كثيرة:
لو كانت أمي معي لا نتشلتني زغاريدها من صمتي فأيقظتني من شرودي، لو كان أبي معي لضمني وسكب في كوب ضعفي قوة، لو… ولو.. لتستيقظ على صوت أشد وقعا من صوت الرصاص في صمت ثلج منتصف الليل: مبارك نجاحك! فتتساءل في صمت يرثى له: وهل نجحت؟.. لا أعتقد فأنا لا أحس بطعمه، أم أني فقدت حاسة الذوق لدي؟.. أوا تدرون؟ هذا ما يحدث معي حين أسدد هدفا جديدا، فالنجاح بالنسبة إليّ حروب ضروس تتضارب فيها الذكريات، وتتشابك فيها المحن، تتعالى شهقات القلب في صمت، وتتحرك رواسب الماضي لتمتزج بدماء الشوق وتختلط بدموع الحنين، فأسمع أنين الروح ونحيبها.. أسمع وأصرخ بها معاتبة في قوة مصطنعة:
أيا روحا كفكفي دموعك
فقد ولّى زمن البكا
وحان لدمعك أن يكتبا:
“يا حامل الروح
دع عنك الهم والكربا
فالدنيا ساعات وتفنى
فلما النحيب يا فتى
وإن كان لا بد من البكا
فاصنع من دموعك مركبا
تعبر به أنهار الأسى”
وما بالكم بأن يجد المرء نفسه أمام تجربة نجاح بعد أن أفاق لتوّه من غيبوبة عاطفية، جسدية، فكرية شديدة الوطأة دامت لأيام طويلة، سببها معركة طاحنة دارت رحاها داخل الجسد فهشّمته، وبين أروقة الروح فأهلكتها، بل وحتى تجاويف القلب لم تسلم منها فيخرج منها المرء لا خاسرا ولا منتصرا ليدخل مباشرة في معركة لتحقيق نجاح جديد..
دائما بعد كل نجاح أحققه أجدني عازفة عن الحياة، راغبة في اللاشيء -لولا رحمة من الله يبثها في جسدي المتهالك- أرثي نفسي ولا أقبل رثاء أحد، أشفق عليها ولا أرضى شفقة من أحدهم، أعزي الروح ولا أرد على العزاء، بل أمقت من يشفق وأعادي من يعزي…وكل ما سبق إجابة عن سؤال طرح عليّ:
لِمَ البكاء وأنت قد نجحت؟!