تمر الأيام وتمضي السنوات في رحلة لا يؤوب منها الذاهبون، فلا يبق سوى أثر تركه أشخاص عبروا محطات الحياة، سواء كان عبورهم خفيفا كالطيف أو مدويا كقنبلة موقوتة، فكل منهم ملأ الذاكرة بصورة.. أم، أب، جار، زميل دراسة، أستاذ، كاتب مقال، شرطي، بائع متجول، سائق حافلة، عامل نظافة، صديق، ممثل، داعية، مبتسم على الطريق، من التقيتهم عند إشارة المرور، من حادثتهم في قاعات الانتظار.. أناس أكِن لهم كل المودة والامتنان ولكن هناك شخص له وقع مميز في نفسي.. وحقا لم أكن لأتصور حياتي دونه.
حبيب مال له القلب وأزهرت الروح بذكره.. محمد بن عبد الله.. الإنسان، النبي، الصديق، الزوج، الأب والمعلم..
كيف لا وكل أرجاء الكون تفوح عطرا من نسمات سيرته، والسماء تتزين بأنوار مواقفه، أما الأرض فمازالت شاهدة أنه أعظم من مشى على ترابها.
مرشد البشرية وقدوة المصلحين.. نبل أخلاقه لن يتكرر مهما بلغ صفاء الروح وطهرها، كالأشياء الجميلة التي تقع في الحياة مرة.. مرة واحدة فقط، ولا يسعنا سوى أن نجلس على ضفاف أنهارها العذبة، محاولين الارتواء من نبعها الفياض الذي لا يجف.
علمني رسول الله أن أجعل لحياتي غاية وهدفا أسعى من أجله وأعيش لتحقيقه، أن أنقذ نفسي من ظلمات الفراغ والرتابة، أن أبحث عن شغفي وأبدع ما استطعت إلى ذلك سبيلا، أن أحلم بحجم السماء وأعمل بقدر الطموح والإرادة ولا أتعجل أبدا، بل أثبت حتى أبلغ ويطمئن فؤادي، فالرسالة معركة حياة لا معركة ساعة أو شهر.
يوم صَدَع عليه السلام بدعوة الحق والهداية، لم يكن طريقه محفوفا بالورود، إلا أنه آمن بفكرته وبنجاحها، فجعل قلوب الضعفاء والأقوياء تلتف حوله بكل صدق وثقة. عقل وتوكل، عمل وسأل الله التوفيق، فكان النصر حليفه وغدت رسالته أعظم ما عرفه التاريخ.
وصايا رسول الله جعلتني أوقن أن قيمة العمل لا تقاس بمدى كبره في نظر الأعين، بل بعمق الأثر الذي يتركه. قال صلى الله عليه و سلم: “إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُم فَسِيلَةً، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فَلْيَغْرِسْهَا”.. فالمعروف لا يحقر منه شيء وإن صَغُرَ، ومهما قَلَّ فهو عمل محمود وعند الله أجر محسوب.
ابتسامة، رفع أذية، إلقاء سلام، كلمة طيبة، عيادة مريض، رحمة ضعيف، إسعاد طفل، مواساة مكلوم.. كلها أعمال وإن بدت بسيطة، فهي تحمل بين ثناياها كل الخير، وقد تكون هذه المواقف سببا في تغيير نفوس، لم تفلح المحاضرات التربوية ولا المواعظ الدينية في فتح أقفالها.
لو لم يكن رسول الله في حياتي لما عرفت أن الحب رزق كالمال والصحة وأنه مزيج متكامل من الاحترام والمودة والعطف والألفة والوفاء، أن المعاملة الطيبة ليست فقط مقرونة بالرضا والأمان، بل يجب أن تدوم حتى في أكثر الأيام ألما وحزنا، أن الرحمة إحسان لا حدود له وغير مرتبط بفئة معينة، بل يشمل حتى أكثر الناس إيذاء لنا.
لو لم يكن رسول الله في حياتي لما أدركت حلاوة السجود في جوف الليل، أنادي الله نداءا خفيا، ولا حلاوة الوقوف تحت المطر، ألامس قطرات حديثة العهد بربي، ولما فرحت بدعوة لا ترد وأنا صائمة أفطر، ولما بلغت نفسي درجة من الاطمئنان وهي تتلو القرآن وتتدبر معانيه.
و أنا أكتب هذه الكلمات، تذكرت مقالا كنت قد قرأته منذ سنتين على إحدى الجرائد الفرنسية ،حيث لخص الكاتب حياة النبي محمد في مجموعة من المعارك و الحروب، ملغيا بشكل تام ذاك الجانب الأخلاقي والإنساني من الرسالة المحمدية .عجبا لأولئك الذين يتهمونه بالقسوة و”يتناسون” أنه قابل الإساءة بعفو وسماحة، ينعدم نظيرهما بين أسوار محاكمهم الدولية. فيا ليتهم يطلعون على سيرته و يا ليتنا نقرأ و نستوعب لنقتدي!
أخيرا، لم أجد أجمل ولا أبلغ من إهداء المبدع أدهم الشرقاوي لأقتبس منه الختام:
إلى ذلك “الأُمِيِّ” الذي علمني ما لم تعلمني إياه الجامعات، مدينة له “أنا” بِـ”أنا”، علمني كيف “أعيش” الحياة. شكرا رسول الله!
صلوا عليه وسلموا تسليما..