لا أعلم كيف يكتبون عنهم؟ ولا كيف يقصون القصص عنهم ولا كيف أنا أقصها أو سأقصها إن شاء الله لي؟
كيف يكتبون حروف كلمة “شهيد” دون أن ينيروا هذه الحروف حقًا لأنها تُنير القلب!..
حين كنت صغيرة ويخبرونني “أحدهم مات شهيدًا في فلسطين” كانت الكلمات دائمًا متصلة ببعضها عندي نفس المكان هو الذي يوحد الشهداء، حتى أتى اليوم وأتممت عامي الثاني عشر، وقفت أمام أبي لأخبره بقراري الهام: “أبي أريد أن أكون شهيدة، أريد الذهاب إلى فلسطين سيحبني الله أليس كذلك؟”..
ذهل الجميع من حولي لكن ابتسم أبي ليخبرني: “متى كنتِ صادقة ومستعدة ستُرزقين هذه الميتة، أما الآن فعليكِ التأهب ثم سكت هنيهة ليقول لا ينالها إلا الصادقون يا بنيتي”..
لم أفهم وقتها ما يقصد أبي، بكيت كيف له أن يخبرني بكل هذه الكلمات التي لا أفهمها، أريد أن أكون شهيدة أريد أن يحبني الله وأن أدخل الجنة، هذه الذي حكى لي عنها شيخنا بالمسجد حين كان يُرتل علينا الآيات التي حفظتها عن ظهر قلب حينها وقص علينا القصص حينها:
{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 169 – 170]
وكيف أُرزق الموت وكيف أكون صادقة؟
لا لا، فقط أبي خائف حين أكبر سأذهب وأحمل معي سلاح وأموال ثم نمت باكية مبتسمة لتصبري الصغير هذا..
كنت صغيرة أمس والآن أنا أصغر في كل شيء، في وسط زحام الحياة نسيت كل هذا، كان يُلقى على مسامعي أخبار ما يفعله الإرهابيون الصهاينة بالقدس والفلسطينين وخاصةً أهل غزة، فأدعوا الله لهم ثم يمر الأمر يومًا بعد يوم، ثم عامًا بعد عام حتى أصبحت الأخبار هذه أمررها بل أتجاهلها وأهرب منها..
اليوم أنا أصغر لصغر همتي وبُعد هدفي عني لأن بكاء الصغيرة أمس كان أعظم من بكائها حاليًا لفوات فرصة دراسة، عمل أو غيرها من الأمور الحياتية، فالآن أدركت ماذا كان أبي يقصد بـ استعدي وكوني صادقة لتنالي فلا ينالها إلا الصادقون..
الآن فقط أدركها قلبي قبل عقلي، لذا تسألت ألست صادقة؟ أليس من صدق اللّٰه صدقه لكن أيضًا من عزم في أمرٍ للّٰه بلغه وأنا لم أعزم لذا لم أبلغ، لانتبه اليوم وأجد أمامي خبر شهيدة جديدة -استوقفني ربما للتذكرة- لا تعلمني لكني علمتها اليوم، بالأمس لم يعلمها أحد من أهل الأرض لكن عرفها ربُها كانت تستعد كانت صادقة عزمت الأمر ولم تتراجع، كانت تداوي الجراح في وسط الرصاص والقنابل والجثث، كانت تنقذ حياة واحد ويموت بين يديها آخر، كانت شاهدة على الجنائز وأيضًا مواليد الغد، لم تعلم بأي يوم ستنال هدفها؟ ولا كيف؟ لكنها استعدت وصدقت وعزمت فنالت، نالت ما لا يناله إلا الصادقون المخلصون..
بالأمس الشهيدة المسعفة ذي الروح الطاهرة *رزان النجار* لم يكن يعرفها أحد سوى من تنقذ أرواحهم -بإذن الله- جُندية من جنود اللّٰه في الأرض مبتسمة لتصبره وتذكره بأجر الآخرة لم نسمع عنها ولم نتذاكر اسمها بيننا لكن يوم 1/6/2018 رفرفت رَوحها مُحلقةً إلى السماءِ مَجهُولة الأرض..
لقد أصبحت معروفة بالأرضِ اليوم سَنتسأل كُل يوم ماذا فعلت لتنال؟ ليُجيبنا أحدهم لقد صدقت فصدقها الله، ذي الروح الطاهرة والقلب السليم والعمل الصالح الذي يشهد عليه أهل الأرض والسماء، رحلت من بيننا لتذهب عند خالقها شهيدة بجسد ميت لكن ذي آثر خالد وذكرٌ دائم لا نزكيها على الله لكنه وحده سبحانه من يزكي النفوس ويعلي الهمم ويعين الصادق بيننا..
اليوم إن لم يتوقف ولو قليل منا يسأل نفسه متى سننال ومتى سنبلغ؟ فمازال صغير بل أصغر من أصغر رضيع فلسطيني ينتظر منذ مولده حق الشهادة يجب أن تكون هناك ولو إجابة صغيرة مثلنا ربما غدًا أو بعد الغد المهم ألا نتوقف عن الصدق والعزم نحن من خذلنا أنفسنا لا الخارج نحن من ضيعنا حقوقنا ودفنا شرفنا وعقيدتنا التي نتدارسها كل يوم نشكو لله منا فيها ليصلحها لنا ويغفرلنا تقصيرنا وهزيمتنا..
نحن خاذلين الأمس واليوم وأسأل اللّٰه ألا يكون الغد أيضًا، فالفتاة لم تتوقف وسط الموت بل هزمتهم جميعًا ولم تتراجع ولم يسكنها الجُبن وحُب الدنيا والزحام فنالت الشرف ونالت الجائزة ونحسبها بإذن الله شهيدة مغفور لها وبالجنة تسعد خالدة، أما نحن فلنسأل الله أن يُرزقنا مِيتة كهذه وشرف جوار الشهداء بالفردوس الأعلى وإن كنا على فراشنا فقط لصِدق عزيمتنا الذي ينبض وسيزال.