أشغال الدورة الـ22 للمجلس الوطني لحزب الأصالة والمعاصرة المنعقدة بالصخيرات تنطلق وعلى جدول أعمالها نقطة رئيسية واحدة، هي هل يتم قبول استقالة أمينه العام السابق إلياس العماري؟.
يجب الاتفاق أن الاستقالة لم تكن إلا مجرد تحصيل حاصل من الأصل، بل إن شئنا التدقيق هي استغناء عن الخدمة، أو بدرجة من التخفيف إقالة غير مباشرة للرجل، ببساطة شديدة لأنه فشل فشلا ذريعا في مهمة كانت محددة الزمان والمكان.
لذلك بغض النظر عن ما يمكن أن تحمله الاستقالة-الإقالة من جديد للمشهد السياسي، فإن المتمعن بنظرة سريعة للوراء ومن خلال التجارب التاريخية السابقة المشابهة لتجربة حزب الأصالة والمعاصرة، سيكتشف لا محال أن خطوة إلياس العماري قد تكون بشكل أو بآخر إعلان عن نهاية وأفول مشروع حزب الأصالة والمعاصرة من المشهد السياسي المغربي، وذلك إسوة بالنماذج السابقة التي أعلن نهايتها بمجرد فشلها في مهمتها ودورها الذي أنشئت من أجله.
فالكل على علم أن مشروع “البام” أُنشِئ خصيصا لمهمة واحدة وهي مواجهة حزب “العدالة والتنمية” بعد أن أصبح يشكل تهديد جدي على أطراف داخل السلطة، فكان الهدف إذا هو كبح جماح شعبية الحزب التي تتزايد وتتمدد بشكل مستمر داخل المنظومة السياسية..، وبما أن الانتخابات الأخيرة للسابع من أكتوبر كان آخر فرصة للحزب لتنفيذ مهمته والتي فشل فيها، فذلك يعني بشكل آلي وتلقائي نهاية المشروع وإعلان دخول الحزب مرحلة العجز السياسي.
فالذي حدث هو أن أمورا كثيرة تغيرت منذ نتائج السابع من أكتوبر، فالرجل ومعه الحزب منذ ذلك الحين وهو يعيش حالة من “صدمة التجاوز”، تلك الصدمة التي تعتلي أي شخص تم التخلي عنه فجأة دون سابق إشعار ودون “ظهر يحميه”، وبين عشية وضحاها يجد نفسه مهملا في ركن ضيق داخل السلطة، حيث يكتشف دون أن يدري كيف أن كل ذلك الصرح العظيم الذي توهم أنه بناه تهدم كله في رمشة عين دون أن يجد حتى وقتا لاستيعاب الأمر.
التاريخ المغربي الراهن علمنا قاعدة نادرا ما تم الخروج عن إطارها، وهو أنه كلما تم إنشاء تكتل سياسي “حزب أغلبي” خاضع للسلطة داخل المشهد إلا وسرعان ما يتفكك بمجرد فشله في المهمة أو حتى نجاحه فيها، ومرد ذلك بالأساس أن التأسيس عادة ما يكون مقرونا بهدف واحد أوحد يكون محدد الزمان والمكان.
فمنذ تجربة “الأحرار المستقلين” وقبله ما سمي بتيار “أصدقاء رشيد ملين” التي شكلت تحالفا مع “الحركة الشعبية” وحزب “الدستور الديمقراطي” (الشورى والاستقلال سابقا) مع السنوات الأولى للاستقلال التي كان هدفها مواجهة تمدد وزحف حزب الاستقلال الساعي للهيمنة على المشهد السياسي آنذاك، إذ كان قوة سياسية تهدد وجود وسلطة القصر نفسه.
ومن بعدها نجد تجربة جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية “الفديك’ التي أسسها صديق الملك الحسن الثاني آنذاك أحمد رضا اكديرة سنة 1963، والتي كان الهدف منها الوقوف ضد قوة اليسار ممثلا في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
ثم مرورا بحزب التجمع الوطني للأحرار الذي أسسه صهر الملك أحمد عصمان سنة 1977، لمواجهة أحزاب الكتلة والتي جاءت في ظرفية سياسية حساسة للغاية لم تكن تقبل أي انقسام أو أي تشكيل سياسي معارض لسياسة القصر (تداعيات المحاولتين الانقلابيتين وتدويل قضية الصحراء..).
وصولا بعد ذلك لتجربة حزب الاتحاد الدستوري مع “المعطي بوعبيد” سنة 1983، والذي جاء كبديل لعصمان وكمنقذ لتجربة حزب التجمع الوطني للأحرار، خاصة بعد فشله في منع الأزمة الاقتصادية المتزايدة التي تعيشها البلد نتيجة انخفاض أسعار الفوسفات بشكل كبير، تزايد نفقات حرب الصحراء، وتزايد الاحتقان في الشارع (انتفاضة الدار لبيضاء وفاس، …).
فالقاسم المشترك بين التجارب هو أنها ظهرت وتقوت وتنمت في فترة قصيرة جدا، إلا أن نجمها خفت بشكل سريع كذلك، زد على ذلك أنها لا تتأسس في العادة نتيجة لحاجة اجتماعية أو سياسية ولا حتى أديولوجية، وهذا ما يجعلها أقرب إلى تكتل أو شبكة أكثر مما هي حزب في حقيقتها.
وفي الغالب هذه “الشبكة-الحزب” تكون مهمتها هي القيام بالأعمال والسلوكات السياسية التي تتحاشى السلطة الظهور في الصورة حولها أو من التي يمكن أن تشكل حرجا لها، أو بمعنى آخر أن وظيفة الحزب الأغلبي هي ضبط المؤسسات التي يصنع فيها القرار بما يحول دون خروجها عن إرادة السلطة، أو بما يجعلها لا تلعب أدوارا تتجاوز الإطار المسموح لها بذلك، خاصة في الفترات التي يضطر فيها النظام بتقديم تنازلات للمعارضة تمكنها من ولوج هذه المؤسسات.
كما يمكن أن تكون واجهة لتبييض وشرعنة ممارسات وسلوكات السلطة “غير أخلاقية” وحتى غير الشرعية (الريع الاقتصادي والسياسي، إبعاد الخصوم والمعارضة السياسية عن دوائر القرار، التحكم وضبط التكتلات والخريطة السياسية..) أو أي شيء يمكن أن يشكل مصدر إزعاج أو منافسة المخزن في سلطته عليه.
فالأصالة والمعاصرة هو انتهى عمليا كحزب أغلبي وانتهت مهمته، هو حصان تم الرهان عليه بكثير من الكلأ والموارد لكن خيب آمال أصحابه، وكما القاعدة فقد أُدخل إلى “إسطبل السلطة” حتى إشعار آخر، لكن لن تكون له مهمة رئيسية بعد ذلك، بل سيكون لغرض الأدوار الثانوية والمكملة فقط، وإن شئنا أن نعطي توصيفا لحالته بعد الآن فيمكن أن نطلق عليه “طابور خامس” للسلطة سيتم استدعاؤه في يوم من الأيام في حرب جديدة لكن لن يكون هو من يقودها.
فالوظائف والأدوار التي تعطى لحزب السلطة الرئيسي لم يعد حزب الأصالة والمعاصرة هو المسؤول عنها، فمشعل “التحكم” في ما بعد سابع أكتوبر انتقل إلى حزب التجمع الوطني للأحرار وقد تم اختيار أخنوش بتدبير المرحلة ريثما يتم تجهيز قمقم جديد في دواليب السلطة ليتولى الزعامة ضد “الأحزاب المزعجة” خلال المرحلة المستقبلية مع إمكانية الإبقاء على أخنوش وإن كان الأمر لعدة اعتبارات موضوعية صعب.