لكل منا عالمه الخاص، صنعه بنفسه، يخترع قصص وحكاوي به، يضع نفسه بأصعب المواقف ويضع حلها أيضا، يفعل به كل ما لا يستطيع فعله بعالمه الحالي، وتظل طائرة رحلتنا من ذاك إلى ذاك هي الخط الرفيع بين الحكمة والجنون..
كانت جارتنا، تقطن في الحي المقابل لنا، امرأة عجوز ولكن ملامحها توحي إلى أنها أقوى من مائة شابة، دائما مبتسمة في وجوه العامة، وكل من تقرب منها ورافقها في الكلام، حكت له قصة حياتها من يوم صرختها الأولى عند الولادة، وكيف مرت سنين عمرها، من بلد إلى بلد، ومن مأساة إلى أخرى، وكيف طعنتها الدنيا بلا توقف، وكيف صمدت أمامها بكل عزة وجبروت بلا كلل ولا ملل..
الجميع يشهد لها أنها امرأة بعشرة رجال، لطالما كنت أهابها ولا أحوم بمقربة عشرة أمتار منها، كنت دائما أبرر لنفسي أن ابتعادي عنها أفضل، بحيث أنها امرأة لا تثق بمن حولها، نعم إنها من الأشخاص الذين يظهر في أعينهم أنهم لا يستئمنوك وينتظرون الغدر منك في كل كلمة تقولها، وأنا لا أستحمد هذه العادة، بل أكاد أصيح في وجه صاحبها بأنه شخص غير طبيعي..
ولكن اليوم علمت ما لم أكن أعلم، ووضعت عذرا لكل من ظلمتهم بسوء ظني، وأنا التي ظننت أنه لا يوجد شيء ما في الحياة يجعلنا نشكك في كل من حولنا، فهي لم تفقد الثقة بمن حولها من فراغ، وفي كل طعنة كانت تتلقاها من الحياة، كان يغدرها كل من استنجدت بهم وحاولت الاتكاء عليهم..
فقد خانها زوجها الأول وتركها تعاني مع قسوة الحياة رفقة طفلتها، تزوجت ثاني، لتجد نفسها مع زوج عديم الرحمة، عديم الخلق، لا يرف له جفن من عذاب الآخرين، تطلقت لتنقذ ما تبقى من جسدها، لتصبح أم مطلقة بأربعة أطفال، ومع ذلك، أصبحت أقوى لم تستسلم ولم ترضخ لليأس، حاربت ضد الحياة إلى آخر نفس، عبرت بعد بضعة سنين أراضي الوطن رفقة أبنائها متزوجة من شخص ثالث.
ولا تقف تشفق الحياة على أحد، عانت من كل النواحي، وصرخت في الأعالي أنا الأقوى سأكافح إلى النهاية، نهايتها كانت بجوارنا وهي منعدمة الثقة حتى بالنفس الذي تأخده في كل مرة، ويبقى الغدر الذي أوصلها لهذه الحالة غدر ليس عادي، ولا أقول هنا غدر الأقارب أو الأصحاب، أو ذوي الأرحام، بل أخص طعنة الغدر لمن هم تربعوا على عرش قلبها واستوطنوا، فخربوه وجعلوه حطاما من الآلام، صلبك، من دمك ولحمك، أولادك..
كان قدرها ذلك، كان نصيبها من الحياة، أو حتى أنه كان ابتلاؤها الذي به ستنعم، كانت طعنة أبنائها لها، الطعنة الأخيرة التي أفاضت الكأس وأرجعت الروح إلى بارئها، تحملت الجميع وتحملت الكل إلا طعنة أتتها على حين غفله ممن اعتبرتهم خلائفها، وذريتها..
توفيت جارتنا، تغمدها الله برحمته، سألت الله الراحة فاستجاب لها، فحربها مع الحياة كانت قاسية، ولكنها كانت خصما قويا، جزاؤها عند من حرم الظلم على نفسه..
ذهبت وتركت في كل نفس علامة منها، سواء تجربة، حكمة، قوة، أو حتى ابتسامتها التي لا تزال تسطع في عيني كلما أدرت وجهي ناحية شقتها..