إنها بداية النهاية لعهد المركزية الحزبية، العيّاري بالذات في 17 ديسمبر علّ القدر أراد الاحتفاء بالثورة على طريقته الخاصّة بإعادة الاعتبار إلى الشباب الذي على حسب تقديري سُلب استحقاقه الثوري “الديسمبري” في التعويل على طاقته والمراهنة على تصوّراته الجديدة لتونس في نسختها ما بعد “النوفمبرية”.
فهل هي هزيمةٌ للقوى الحزبية والتكتلات السياسية أم هو انتصار لروح الثورة التونسية والمدّ الشعبي المنادي بالقطع مع الماضي؟
وقد تُحسبُ بعض الأحزاب الجديدة على النظام القديم في محاولة لإعادة التشكّل والترميم بعد الإطاحة بشرعيته شعبيًّا وقضائيًا. لكن مرحلة الانتقال الديمقراطي التي طالت في عهد “الترويكا” قد أدخلت ربّما الإحباط في قلب من تصوّر أنّ الإنجاز فوريٌ وأنّ أُكلهُ سيتجلى بذلك القدر من السرعة. وقد يصلُ هذا الإحباط إلى درجة تمني عودة عهدٍ قد ولّى وانتهى ولن يعود.
هذا الانقلابُ على المسار الثوري رافقته عديد العوامل لعلّ أبرزها فشل الحكومة وقتها في التعامل مع من أراد تعطيل عجلة الاقتصاد وربّما إغراق البلاد في الأزمات الاجتماعية من خلال الإضرابات اليومية في شتّى القطاعات والمرافق العامّة والخاصة، وهي في أمسِّ الحاجة إلى الإنتاج. إضافةً إلى الظرف الأمني الحسّاس بأحداث اغتيال “شكري بلعيد” و “الحاج البراهمي”.
وقد نادت بعض القوى في المجتمع وقتها بالإطاحة بالشرعية وإسقاط الحكومة، وقد منّى البعض نفسهُ بإعادة السيناريو المصري وأحداث رابعة لكنّ حكمة القيادة السياسية لعبت دورًا مرحليًّا في تجاوز تلك الأزمة الحادّة.
وقد يذهب البعض في اعتبار التجربة التونسية ما بعد 14 جانفي وحكم “الترويكا” مجرّد تسليم البلاد “للعملاء” على حسب تقديرهم وهو توصيفٌ انفاعليٌ خالٍ من الدقّة على ما أزعمُ. فقد شهدت تونس شبه تحوّل في الصراع: من مواجهة فكرية حول فلسفة الحوكمة إلى مواجهة دامية في الشارع.
أحمد اللّه أن طبائع الشعب السلمية مكّنت تونس من تجاوز ربّما حمّام دم بين الراغبين في بقاء النهضة و “الترويكا” وآخرين يطالبون بإسقاطها.
السيناريو المصري لم يحصل رغم التدبير له من بعض الأطراف الساعية إلى زعزعة السلم الاجتماعي. الآن حركة النهضة ما زالت في الحكم وهي طرف أساسي في اللعبة السياسية وهذا دليلٌ على أنّ التجربة الديمقراطية التونسية في مسار صحيح أو بالأصح هي أنجح تجربة ربّما باعتبار فشل التجربة المصرية والسورية والليبية.
تونس… النموذج الأنجح لكنّه نجاحٌ منقوص
تونس التي عانت ويلات الحزب الواحد والرأي الواحد هي في طريقها إلى إعادة الكرّة، لكن بطريقة ديمقراطية عن طريق الصندوق. فقد يغيبُ عن الساحة التونسية اليوم مشروعٌ سياسي قادرٌ على منافسة قطبي الحكم إمّا بسبب غياب البرنامج أو ضعف القواعد الانتخابية التي تفوّض شرعية فرض التصوّرات.
فهل ستواجه تونس لعنة “دكتاتورية الصندوق” أم أنّ التصوّر الشبابي قادرٌ على كسر قاعدة الولاء الحزبي؟ وهذا في حدّ ذاته يُعتبرُ تهديدًا لروح الثورة، فأصلُ المعركة معركةُ برامج لا إيديولوجيات ربّما تُعيق مسار الإنجاز المنشود من وراء ممارسة الديمقراطية وسياسة الصندوق.
على التونسيين تحمّل تلك المسؤولية التي حمّلتهم إياها أرواح الشهداء في بناء تونس الجديدة، وذلك من خلال الابتعاد عن السلبية والمشاركة في أخذ القرار وتفويض الأصلح لإدارة شأن البلاد والعباد.
فوز “العيّاري” دليلُ سلامة المسار
راهنَ أكثرية الناخبين المعنيين بدائرة ألمانيا على مشروع “أمل” لـ ياسين العياري على حساب مرشّح النداء والمشروع وغيرهم من الأحزاب. هذا الفوز رمزيٌ ويدلُّ على أنّ التوجّه الثوري وتلك الروح لم تندثر وقد تم إثباتها إكلينيكيًا عن طريق تفويض “العيّاري” الذي يعتبرُ من شباب الثورة الحالم بالتغيير والساعي إلى الإنجاز.
ليس هذا فحسب بل قد يعكسُ أيضًا مستوى نضجٍ لدى الناخبين الذين ابتعدوا عن مسالة الولاء الحزبي الأعمى والتقيّد بتوجيهات القيادة وآمنوا بأنّ العمران نتاج مشروعٍ لا أسماء وخلفيات.
حُقّ لشعب تونس المفاخرةُ بتجربته ونضجه السياسي والقيادي والتدبيري، وتونس اليوم في أمسّ الحاجة إلى شبابها الواعي وهي على حافّة الإنجاز.
انتهاء صلاحية بعض أبواق الدعاية الغير نزيهة
يلعبُ الإعلامُ دورًا هامًا في إدارة الرأي العام وتوجيهه إمّا من خلال التسويق لهذا الشق أو بإدانة الطرف الآخر.
فوز “العيّاري” الأخير دليل فشل كلّ تلك القوّة الإعلامية في السيطرة على الناخبين من خلال عمليات التشويه المقصودة أو لعبة استطلاعات الرأي التي باتت مكشوفة. وقد تدلّ شراسة “الهجوم” على الفائز فور الإعلان الرسمي عن النتائج نية هذه الأطراف في توجيه الرأي العام، وقد يعكسُ هذا انتهاء مصداقيتها الشعبية في خوض اللعبة بنزاهةٍ، وربّما تواصلُ حملتها ضدّ الفائز ليس دفاعًا عن جدارة الطرف الآخر بل محاولة لضمان موقعها.
الشعب التونسي أدرك المسار الصحيح للثورة و “البراغماتية” التي تصون الدولة والمؤسسات، وأنّ الحوكمة الرشيدة تستدعي بُعد النظر والانحياز للمصلحة العامّة لا البعد السياسي الضيّق القائم على الإيديولوجيا. تونس اليوم تُدرّس فقه الحوكمة بحنكة كوادرها وعلى رأسهم جيل جديد من من خبروا أمور التدبير.