“إذا فشل المدافعون عن القضية، فالأجدر بنا أن نغير المدافعين، لا أن نغير القضية”، هكذا صرخ غسان كنفاني، ذات ملل من أوجه دمى ثابتة في المشهد، لا تتغير كأنها حائط المبكى، ولا تغير في الأمر مثقال حبة من خردل، كأنها تميمة معلقة بمعصم صبي.
وهكذا في تناصّ صريح مع حنجرته الصداحة، أصرخ أنا وجه آلهة المعبد الشرقي، الذي يشهد اعتكاف اللاجئين الصحراويين فيه على مدى أربعة عقود وتزيد، اعتكاف في دير الحرية مناجاة لاستقلال لا تخطب وده كل عبارات الغزل الفاحش والعذري.
إني لأتطعم نقيع الحنظل مراً لزجاً، يسيل به لعابي في الحلق، وقد غصت به الحناجر التي ذاقته من قبلي، وهي تأكله بالشوكة والسكين.. أربعة عقود ونيف من الزمن الرملي، والخيام المهترئة، والمد والجزر، تأرجح المواقف والقرارات التي لا تسمن ولا تغني من جوع.. انشطار في الهوية والانتماء، بين شمس المنفى الحارقة شرقاً، وأحذية العسكر الخشنة غرباً، كأن جدار العار الفاصل بين جسد الصحراويين المنهك والمنتهك، برزخ يقول بألغامه القاتلة: أنا برزخ ولن تلتقيان.
فمتى سنطرق جدار الخزان؟! متى؟ متى؟!
طعم الحنظل هذا ألفناه، يوم أسلمنا رمة ناقة القضية لأشقاء “أبي الخيزران” الخصي، (الذي لا هم له إلا جمع المال بأي طريقة كانت)، بعد أن وضعونا في صهريج الرمل الشرقي، الذي خنق أنفاسنا حد الموت.. والفرق بيننا وبين أبو قيس، ومروان، وأسعد، أنهم كانوا ثلاثة فقط في خزان الماء، ونحن شعب بأكمله في خزان الرمل.
فمتى سنطرق جدار الخزان؟! متى؟ متى؟!
رواية مقاتل القلم وفدائي الأدب، غسان كنفاني “رجال في الشمس”، مطابقة حد التوأمة لواقع مَن قبع داخل خزان صهريج ماء فارغ في إحدى أشد المناطق حرارة بالعالم، لكي ينتقل من حالة التشرد التي عايشها بعد اجتياح ريح الصرصر العاتية، ذات الـ75 من القرن المنصرم، في محاولة للوصول إلى أرض الكفاح، وإلى حياة أفضل لأهل الكثيب الكئيب.
الآن يعيش الشعب الصحراوي في معظم أماكن وجوده ضمن ظروف معيشية واجتماعية سيئة جداً، متثبتاً في حالة اللجوء واللالجوء، بحالة من الأمل والإصرار على البقاء محافظاً على كينونته المعيشية، ضمن كل هذه الظروف ومحافظاً على حالة الأمل، والإصرار على أن القادم هو حرية، ودولة يعيش في ظلها الشعب كريماً معززاً.
لماذا لا نطرق جدران الخزان؟!
تسقط كوفية هذه العبارة من الرواية، على واقع لثام قضية الصحراء، تسقط عمودية فتتناسق أبعادها مع جسم أبناء الضباب.
أبو الخيزران، الذي نسي الثلاثة في جوف الخزان، وذهب يستعرض فحولته المتخيلة أمام حرس الحدود، شبيه بقيادتنا الرشيدة، المتشبثة بحالة التفاوض والحلول السلمية، مع وضوح الرؤية لدى الجميع بعجزها السياسي والتفاوضي عن الوصول إلى الحد الأدنى من المطالب الشرعية لشعبها، المعتكف بين كفي كماشة خيام الاحتلال، وألواح المدائن المحتلة، وبدلاً من وضع حد لهذه المهزلة، فهي مستمرة في الطرح الإعلامي والجماهيري، وسيل التصريحات التي تلقى هنا وهناك، تعلن حالة صمود لكنها تتهاوى يوماً بعد يوم!
فمن يوم وقف إطلاق النار ما زالت القضية في دوامة المفاوضات، دون وضوح الرؤية لأساسيات التفاوض، ولا ما سيتم الوصول إليه عبرها، فالحال على ما هو عليه، ولا تغيير في دار لقمان.
لقد مات الثلاثة تحت أحذية الحرارة، بينما بقي “أبو الخيزران” يحاور موظفي الحدود حتى أخبرهم بمغامراته الجنسية الكاذبة، والواهية، التي كان يتخيلها، بسبب عجزه، فقد أخصاه المحتل، ولم يبقَ له سوى فحولة مخيلته.. وذلك يبدو أشبه بالكفاح المسلح، الذي تشنف به الجبهة مسامعنا، في كل فرصة يعلو فيها خطيب منبر التحرير، الذي غسلت شمس الحرية يديها منه ومنا.
فمتى سنطرق جدار الخزان؟!