مدن الموت الملون

منذ خمسة آلاف سنة، بدأت البشرية تحزم أمرها وتبدأ بالانفصال عن جذورها الغريزية وتنطلق لتبني أولى حضارات هذا الكوكب البائس.

ربما لم تكن البشرية حينها تعلم أن أصل هذا الكوكب لم يكن إلا كتلة مُحترقة مرمية في الفضاء على غير هدى، إلى أن التقطتها يد صانع حكيم، فسخّر لها ما أطفأ حقدها المنطلق من جوفها، وسيّج سماءها من أمطار الأحماض القاتلة القادمة من تزاوج الموت المنبعث من الداخل مع الموت القادم من الفضاء على شكل نيازك وشهب ومخلفات موت آخر.

أولى أفكار البشرية النيّرة، كانت أن تُنشئ المدينة، والتي هي هروب من مرحلة البداوة، وقطيعة نهائية مع ما يُعتقد أنه الجذر الحيواني لبني البشر كما يُروّج بعض البشر أنفسهم.

شاء القدر وأشياء أخرى، أن تتشكل أولى المدن في شرقنا الكئيب.

بدأ شرقنا في تشييد المدنية، ووضع القوانين، وبدأ بتصدير الحضارة التي ساعد اكتشاف شرقنا أيضاً لوسيلة التواصل الأشهر بين البشر ألا وهي الأبجدية في سرعة وأمان وصولها للعالم المعروف.

بدأ شرقنا بصياغة كل ما هو جديد، فصاغ الموسيقى والدين والعلوم المختلفة وصدّر حتى الفن بل والأدب والنُكتة أيضاً.

بدا أن شرقنا العزيز يعمل جاهداً لأن يكون الأول في كل شيء، حتى في الخرافة والجهل والتخلف والموت، فبعد أن تمرّغ بنعيم العيش وحكمة العلوم، نراه قد استدار ليتذوق العدم من فنون القتل والظلم والعتمة والعته.

من مدننا الأولى، انطلق النور ليُنير عتمة الكوكب، فأطلقت مدنيتنا ألوان العلوم والفنون والحكمة والدين، ولكن ما يجري الآن يؤكد أن لكل بداية نهاية، وأن لكل صعود مهبط لابد منه.

خلال ردح من الزمن، تحوّلت المدن العربية لمأوى ومُتنفس بل وكعبة. فقد قصدها من ابتغى العلم والعمل والمأوى، فخلال عشرات السنين المتخبطة، وعشرات الحكام المنشغلين بذواتهم وحريمهم، ضاقت الأرض بفقيرها وسارعت بتطفيشه مستعينة بقرارات حكومية عمياء، وحماقة ولاة أمر ما أنزل الله بها من سلطان.

لم تكن المدن العربية ذات صدر واسع كما تتخيل، فقد نشأ ذلك الخصام طويل الأمد والمعقد بين الحضارة والبداوة، وبدت المدن العربية صارمة فيما يتعلق بهذا الأمر، ولم تسمح للوافدين الجدد بأن يعكروا مزاجها الحضاري الذي اختطته لنفسها، فرمت بهم على أسوارها، لتنشأ عشوائيات مدن الصفيح التي أحاطت بكل المدن العربية تقريبا، لتشكل حزام عار كلل كل المدن دون استثناء.

توسعت حلقات الصفيح عبر عشرات السنين حتى بدأت تلتهم المدينة نفسها، وبتنا نرى المدينة تُصارع لتبقى حية على الأقل، رغم الإعياء الذي نال منها ورغم العتمة التي باتت تتجول في أغلب شوارعها.

لم تكن التغييرات الاجتماعية وحدها من عزل أهل المدن من كراسي سيادتها ، بل ربما أن التغييرات التي نالت من كراسي الحكم هي من عجّلت بتلك التغييرات الاجتماعية التي تلتها تلقائيا تغييرات اقتصادية سرعان ما وجدت المدنية نفسها عنصراً مُستهدفاً ومُحارَباً في أغلب تلك التغييرات التي لم تقوى على هضمها واستيعابها.

هكذا، انتفض الريف ليقتلع آخر متراس بنته برجوازية المدينة ليحمي داخلها من الغزو الخارجي، وجاء الربيع العربي ليلطم دمشق والقاهرة وبغداد، وليرمي صنعاء وطرابلس أرضاً.

لا أصدق ولا أسلّم بهزيمة قاصمة للمدنية العربية، إلا أنني أرى رأي العين كيف تحولت حواضر شرقنا التي لطالما كانت منيرة مشعّة إلى بيوت بؤس وفقر وجهل، تكاد مجاريرها تُغرق أصوات الاصلاح التي بدأت تُخنق بحقد غريب وغلٍّ أسود قبيح.

لنكن واقعيين ونُقرّ بأن مدننا لم تعد صالحة للعيش الآدمي. فالقاهرة بدأ الجوع يتسلق أسوارها وجدرانها، وبدلاً من رمي ما يمكن أن يُبعد الجوع قليلا، تفتقت الذهنية للقيام بزيادة ارتفاع الأسوار وتغليظها وزيادة حراستها.

بدلا من طرد العتمة، زدنا الأنوار الكاشفة لأسوار المدينة، وبدلاً من محاربة الجهل بتنا نُحارب الكلمة الناقدة بل ونحتقرها ونعتبر صاحبها حشرة ونُسارع بعزله إن لم نستطع التخلص منه.

بدأنا ننشر فناً هابطاً ليُثبت أننا مازلنا نملك شيئاً.

نخترع مخترعين ومُختَرَعات.

نشتري مصفقين وراقصين.

نلوّن الخيبة ونرسم لها أزهاراً.

نرمم ضعفنا باستعراض قوّة يأكل البسطاء والمسحوقين.

مازالت المدينة قائمة، ولكن مدنيتها قد ماتت منذ زمن.

لم يقتل دمشق قوافل اللاجئين إليها فقط، ولا التسطيح والمنفعية التي عاثت خراباً في جمالياتها وطابعها المميز، بل زاد ذلك الحرب الشريرة التي أكلت كل أبيض وجميل ومشرق فيها.

تسلط رجال الدين على المدينة، كل مدينة، ونشروا فيها سطوتهم بخيلاء جاهلية، متكئين على بركات وليّ الأمر، والراعي الرسمي لكل مستبد وقاهر ومختلس.

اخترع رجال دين السلطان ديناً جديداً هجيناً، أشداء فيما بينهم، رحماء على الكفار.

تحالف ثالوثي مشبوه سيطر على مدنيتنا فأغرقها ومازال ينكر ويرمي كل حين بضحية جديدة علّ طوفان النهاية العظيم يتوقف، وأنّى له ودموع المسحوقين تمدّه وترفده كل حين.

لم يبقَ لدينا حسنوات نلقيهم للنيل ليرضى، وما عاد بردى يصدح بمياهه ليُغطي على قرقعات كؤوس الخمر التي يتبادلها مسرفو المدينة على ضفافه، وما عاد الحسين يرضى منا لا بلطم ولا ببكائية بعد أن نسينا مأثرته وتضحيته في سبيل قتل الظلم.

مات الحسين فينا، وبتنا أجساد خاوية لا تقوَ على رد ظلم ولا إنكار خطأ.

ووجدت الكعبة نفسها وحيدة أمام سيل (سيلفي) الهواتف النقالة الطائفة حولها.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي يوث.

Exit mobile version