مغترب، نازح، مهاجر، لاجئ، كل هذه الكلمات تصب في محطة واحدة، تعددت الأسماء والغربة واحدة…
تصدح موسيقا الهجرة التي باتت تعزف على أوتار أحلامي السحيقة، فاليوم أرتدي ثوب اللجوء وأبدأ مسيرتي في الغربة، وها هي عاصفة للذكريات تهب وترتطم بثوب الغربة تاركةً وراءها أحلاما متطايرة مكلومة، بعد غياب دام لسنوات في انعزالي عن الناس في منطقة محاصرة..
اليوم؛ صحوت في الغربة، نعم صحوت على صوت طائرة تحلق فوق هامتي، توجست منها وارتعشت من دون قصد، تنحيت جانبا وتذكرت أن هذه الطائرات ليست لقصفنا إنما لخدمة بعضنا، مرات عديدة ويتكرر المشهد ولكنني لم أتأقلم بعد، فصوت الطائرات الحربية تشبث في تلافيف ذهني وتثبت في جذري، فردة الفعل لم تعد إرادية كما ينبغي.
اليوم؛ رفعت ستار الوطنية عني وأشرقت شمس الغربة على جسدي النحيل المنهك من الظلم والحرب.
فهنا حيث لا شيء يشبه سوريا، فباتت الحياة كغير الحياة، كل شيء تغير حتى لغة التواصل أيضا فإني أشاهد الأحرف التركية على اللافتات ولكنني أقرأها باللغة الإنجليزية، أتلعثم وأنا أكلم نفسي ولا أفقه شيئا فأصمت فوق صمتي.
إنه سؤال يراودني في نفسي المقحمة، لماذا أنا هاجرت؟ لطالما تردد صدى هذا السؤال بداخلي.. فأتذكر وأجيب.. أتذكر تجربة النبي محمد صلى الله عليه وسلم عندما هاجر من مكة إلى المدينة، كم حزن وعانى، مع هذا كانت هجرته ليشتد أزرهُ ويعود فاتحا إلى مكة المكرمة، فهجرة النبي لم تكن فقط له، إنما درساً وقدوة لنا أيضا.. “ولكم في رسول الله أسوة حسنة”.
حبيبي يا رسول الله، كم أُهونُ على نفسي عندما أقتدي بك، وأتذكر أنك هجرت وخذلت وحوصرت وحوربت وحزنت وبكيت وفرحت، كم أنا سعيد يا رسول الله لأننا في الغوطة أصابنا ما أصابك. ولكننا لم تكُ عزيمتنا كعزيمتك، والآن ننتظر الفرح، ننتظر أن نعود إلى سوريا منصورين، “ليحق الحق ويبطل الباطل”، ثم أجيب نفسي:
نعم هاجرت لأن النبي هاجر، ولأبدأ حياتي من جديد، هاجرت من الظلم والاستبداد والديكتاتورية، هاجرت هربا من الخذلان والقصف والخوف، هاجرت لأستطيع التنفس، هاجرت لأشياء لا أستطيع تفسيرها بأبجديات العالم.
لا أنكر بأنني قلق بعض الشيء فثمة خوف يكتنفني ولا أكتنفه، هنا تختلف الحياة كثيرا، فحتى أحلامي اضطررت إلى تقليص بعضها وتخليت عنها، فالعمل هنا قد يمنعك من بناء جل أحلامك ولكن إن صبرت ستنال حتما.
إنهُ رمضان قد هل علي أول مرة في الغربة، لا أنكر أن رمضان الماضي كان شاقا في الغوطة لانقطاع مقومات الحياة فيها سابقا. ولكنه كان يجمع عائلتي على مائدة متواضعة واحدة، كان جميلا رغم قساوة الحياة علينا، أما الآن: فإني أسمع صوت آذان المغرب باللغة العربية المكسرة، وأرى مائدة الإفطار متواضعة كئيبة خاوية.. أراها خالية من لمسات أمي.. أراها مهجورة من كحة أبي وعائلتي.
“أمي”؛ يا لهذا الاسم.. فعندما أريد أن أذكر أمي في قلبي أو على شفتاي تمنعني دموعي السخية، أشهق وأبتلع دموعي مع غصتي وأصبر.. في الغربة أرى صديقي الذي يعرف أهلي كعائلتي..
اعلموا جميعا، أن في الغربة ثمة قسوة طبيعة من الجميع بلا استثناء، قسوة من العمل والبرد والحر، وحتى من نفسك، في الغربة لا يوجد حنان من أحد أبدا، فلا أمٌ تؤويك ولا أبٌ ينصحك ولا أخٌ يشعر بك، إنما هناك رحمة من ربك الذي لا يخذلك، مهما اشتدت بك العواصف فكن واثقا بالله وتوكل عليه..
في الغربة لا تبحث عن أحد سوى الله فإنك بحاجته أينما ذهبت، في الغربة الله هو سندك وقوتك، في الغربة الله هو عائلتك وربك وخالقك، الله هو ناصرك، وتذكر أن الله قال لك: “ونحن أقرب إليه من حبل الوريد”، وعندما تعود من الغربة ستدرك أنك بحاجة إلى الله أكثر لأنك عرفته أكثر.