في كتابات هيغل (1770-1831) حول الدولة، نجد العديد من المعاني والتعريفات، بيد أني لم أجد تعريفًا أدقّ وأبلغ من تعريف هيغل للدولة: «الدولة هي الروح وقد تموضعت»(1).
ويقول هيغل إنها توجد على نحو مباشر، وعلى نحو غير مباشر، الأول في العرف والقانون، والثاني في الوعي الذاتي للفرد. ويمثلها (بالآلهة اليونانية)، وتحديدا (آثينا) في معرفتها لذاتها وإرادتها لها.
والحال أن أبرز ما يميز الدولة عند هيغل أنها عقلية بمجرد أن تصل إلى حالة الوعي، كما أن غايتها الوحدة الجوهرية؛ نعني وحدة الكلي والفردي، هنا: «الغاية النهائية لها حق أعلى أو أسمى من الفرد، ذلك لأن واجب الفرد الأسمى هو أن يكون عضوا في الدولة»(2).
ويتجلى مضمون الدولة في الحرية الذاتية، والحرية الموضوعية.
هنا، سوف يتحدث هيغل عن المفكر السويسري جان جاك روسو (Rousseau) (1712 – 1778)، هذا الأخير حسب هيغل نظر إلى الإرادة بوصفها إرادة فردية فقط: «ولم ينظر إلى الإرادة الكلية على أنها العنصر العقلي المطلق في الإرادة، بل فقط على أنها إرادة «عامة» صادرة عن هذه الإرادة الفردية»(3).
نتج عن هذا جعل اتحاد الأفراد قائما على آرائهم العرضية، وإراداتهم التعسفية. يقول هيغل: «عندما انعقدت السيادة لهذه النتائج المجردة وكانت لها السلطة استطاعت لأول مرة في التاريخ البشري أن تقدم المشهد الهائل لتقويض دولة عظيمة موجودة بالفعل»(4).
أما صورة الدولة، في فكر هيغل، فإنها تتمثل في كونها: «تحدد ذاتها عن طريق القوانين والمبادئ التي هي أفكار ومن ثم [تم] كلية، وهذه الفكرة هي الوجود الأزلي على نحو مطلق، والضروري للروح»(5).
لتوضيح هذا القول سنُعرفه بالسلب، وهذا ما تطرق إليه هيغل في حديثه عن السيد (Von Haller)، وقد وصف هيغل آراء ڨون هالر بأحادية الجانب، وسطحية المبادئ؛ إذ أن هذا الأخير جعل ماهية الدولة في ما هو عرضي (القوة، الترف…)، وليس في ما هو جوهري.
الأمر الذي دفع هيغل إلى القول: «من المُسَلَم أن السيد ڨون هالر [Von Haller] من أعداء التشريعات القانونية، فالقوانين المدنية في رأيه من حيث المبدأ من ناحية «لا ضرورة لها لأنها تنبثق من تلقاء ذاتها من قوانين الطبيعة…»(6).
- ابن المقفع .. «المثقف العلماني» الذي اغتال العباسيون عبقريته
- هل التفاوت الاقتصادي مشكلة حقا؟
- سيد قطب وقراءة في كتابه “معالم في الطريق”.. الطريق إلى حبل المشنقة
- حِبَالُ العادات الإنسانية.. قراءة في كتاب العادات السبع للناس الأكثر فعالية
- الزهايمر بداية الموت الصامت
والحق أن الدولة تتجسد في قوانين وقواعد ومبادئ، لتصبح عينية؛ إذ هي السلطة التي تعلو كلاً من الأسرة والمجتمع المدني، وفي حديث هيغل عن فكرة «اعتماد القوانين» استحضر الفيلسوف الفرنسي مونتيسكيو (Montesquieu) (1689-1755)، الذي كان له فضل كبير في تفصيلها وتحليلها، كما أنه عالج في فلسفته الكل من خلال علاقته بالجزء.
هنا، لابد من الحديث عن الواجب والحق في تصور الرجل. يجعل هيغل الحق والواجب متحدان، وهذا ما يقصده بقوله: «في الدولة بوصفها واقعاً أخلاقياً، وبوصفها النفاذ المتداخل بين الجوهر والجزئي، يكون التزامي لما هو جوهري [الواجب] تجسيدا في الوقت ذاته لحريتي الجزئية [الحق]»(7).
وحدة التصور هذه جعل منها هيغل القوة الداخلية للدولة، بيد أن هذا الإتحاد يصبح اختلافا في المضمون؛ بسبب تمايز اللحظات في مسار التطور الداخلي للفكرة (الكلي، الجزئي، الفردي)، وتبيان هذا أن: «في الأسرة يختلف مضمون واجبات الابن تجاه والده عن مضمون حقوقه نحو نفسه، ومضمون حقوق عضو المجتمع المدني ليست هي نفسها مضمون واجباته نحو الأمير والحكومة»(8).
وميز هيغل الواجب المجرد عن الواجب العيني: الأول يمقت المصلحة الجزئية، والثاني يجعل منها لحظة جوهرية؛ إذ يجب أن تتحول الشؤون العامة (الكلي) إلى خاصة (المصالح الجزئية).
ولتوضيح هذا، يقول هيغل إن الفرد المنعزل يصير في «حالة خضوع» عندما ينظر إلى الواجب على نحو مجرد، وليس بوصفه إشباعا لمنفعته في ضوء الكل.
من تم، قسم هيغل الروح في إطار الفكرة الشاملة لدائرتين متناهيتين هما: الأسرة والمجتمع المدني. منهما تنال الجماهير حقها؛ لأنها مؤسسات تدعم الحرية العامة، وضمنيا الحرية الجزئية، هذا هو الدليل على وحدة الحرية والضرورة كما قال هيغل.
وبعد وقبل: «لم تعد علاقة الفرد بالدولة علاقة إقصاء، وإنما هي صارت علاقة إشتراك»(9). ويحصل هذا في حالة وجود العقلانية في الدولة؛ مما يكسب مؤسساتها طابع الثقة. وفي وصفه لمشاعر الوطنية، يميز هيغل بين الرأي الشخصي الذي يدعي الوطنية، وبين العمل على استحقاق هذه الوطنية من خلال المساهمة في وظائف ومجالات الدولة.
[1] هيغل، فلسفة الحق، ترجمة إ.ع.إ، مكتبة مدبولي، 1996. ص 498.
[2] المصدر نفسه، ص 497.
[3] المصدر نفسه، ص 500.
[4] المصدر نفسه، ص 500.
[5] المصدر نفسه، ص 498.
[6] المصدر نفسه، ص 504.
[7] هيغل، فلسفة الحق، ترجمة إ.ع.إ، مكتبة مدبولي، 1996. ص 508.
[8] المصدر نفسه، ص 507.
[9] محمد الشيخ، فلسفة الحداثة في فكر هيغل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2008، ط1. ص 308.
4 تعليقات