أتعرفين، ما هو الحب يا صغيرتي؟!..
هو أن اقرأ في عينيك طلاسمه الغامضة، وحروفه التي لم تكتب بعد، أتمعنها في بؤبؤك بشغف الأطفال، وأسحب جلدك الناعم لأكتب أسرارها عليه، أكتب وأكتب وأكتب.. وفي الأخير، أجدني كنت أدور في حلقة مفرغة، فكل تلك الشطحات ليست سوى تفسير للماء بالماء.. فقد كان يمكن أن أقول أحبك برعشة في الشفاه ونحن قاب قوسين من رمشة عين، ونبضة قلب..
الحب يا صغيرتي، أعمق من شطط الأبجدية، فهو هنا في أسارير الوجه، ومسام الجلد، يفتحها على مداها، لتتسع للمزيد من الوله والتيه، ولهٌ يصل حد التدله، وتيه يشبه المنفى، حيث تنتفي الأشياء فينا، وننتفي فيها..
وجدتني، أكتب هذا، وأقرأه كمجنون يتمتم بشيء غير مفهوم، وأنا جالس في زاوية مقهى، منغلق على نفسي، منفتح على رواية “ريح الشرگي”، للكاتب المغربي، “محسن الوكيلي”.. أحاول أن أمعن التركيز في متن الحكاية، لكن صخبا برأسي تجاوز هدأة المقهى، وطغى على سكونه..
أضع الكتاب جانبا، بينما هبت ريح الشوق، لا شرقية ولا غربية، وأقسمت بأغلظ الأيمان، مور سوافي ذياك الشوق العظيم إلا أن تنفث عنه الرماد، وتوقد جمره تحت مراجل ترمي بشرر، وحلف بوطأة الغياب أن يحفر وجهها النافر أخدود حب على وجه الذاكرة.. فسال وجهها الحارقة أساريره، بفتنة منفردة، ونيطت علي تمائم من سحر عيونها الوثنية، التي تربع في بؤبؤها شيطان العذارى، وطغى بياض جسدها المرمري، المعشق بالغنج والدلال، على مخيلتي، وسال فيها رقراقا، صافيا، كدمعة يتيم، في لحظة صفاء بيني وبني، وبينا تقف ألف ألف مسافة قميئة، تكبلنا بالعجز الكسيح، والغياب الممطط، تاركة وهج حروف بوح؛ يكتب نفسه بشماريخ الطلح وصمغ تلك الصحراء..
لحظتها استحضرني نص صغير كتبه “أبو هديل”، وكنت قد سجلته بمفكرتي، استخرجته كما يستخرج الجندي المهزوم، آخر طلقة من رشاشه، وأخذت أقرأه حرفا حرفا، كلمة كلمة، بخشوع الأنبياء، وصفاء المتصوفة:
“رتيبا يتدانى طرقها تثاءب باب المخيلة حوافي اليقظة..، وفزعة كغيمة ضامرة تطوح بها الريح أينما شاءت، تتداعى إليها زخات حروف رطبة وصدى أصوات طيبة تترد قمة الجبل؛ والهوينيا تهطل فوق الأنفاس..! أطرقي بتأن مرة أخرى، وستتبلل أصابعك من المحبرة..! أطرقي بشدة غجريتي..!”..
آه يا غجريتي، وأنا يا أنا.. أنا الذي أعرفك في تجلدك تجلدك بسياط النار والجليد، وتخدر روحك بعربدة السلاف، وأحاديث فاه القناني.. ما لي أراني حزينا دوما، أهي حكمة عشاق نزار، لحقتك بعد موته، حزن البارود انفجارا لجثة بلقيس.. أم أني غبت في مساءاتك، وأنت التي سواك رب العرش يا ربتي، مسك عطر في رقبتي، «سبحانه من سواكِ»..
أتعرفين يا شقيقة الروح، وشقية أن التيه ليس هو أرصفة المنافي، لنا نحن أبناء الضباب؛ المهرولين خلف الغيمة الضامرة، والحبلى بالمطر، بل هو أن يحمل فؤاد المنفي آخره نحو آخرته النكرة، ودنياه المعرفة، وردة حب نبتت في وطنه الملغوم، رغم كل المكاره والمكائد..
أتعرفين يا عمري الهارب، أن لا لوح يحفظ عهودنا إلا بوحنا، يا ولادة الكثيب الكئيب، إلا ذلك الوجع الذي استودعه ابن زيدون لنون قافيته ذات فقد؟!!!..
أكمل النص، أدخن سيجارتي الأخيرة، وأنفث دخانها حنقا وجه الغياب، وأنا أردد مع محمود درويش:
“مقهى، وأنت مع الجريدة جالس، لا، لست وحدك.. نصف كأسك فارغ، والشمس تملأ نصفها الثاني”..
أخطأت يا محمود، فلست مع جريدة، بل مع رواية.. واصبت يا ابن المنافي، أيضا.. فأنا لست وحدي، أحملها معي كما يحمل صبي تمائمه.. لقد روضت الخطأ حتى عاش في الصواب..