إلى الأرواح المأسوف عليها، القلوب الصغيرة التي تبيعُ المناديل في الشوارع الواسعة. إلى تلك الأرواح البريئة التي اختطفت منها في أوج العطاء، تلك الأجساد المتصلّبة التي شملت ابتسامة بيضاء نقية، التي تُناجي الحياة لأجل النجاة من الحياة.
في هذا الخلاء وسط عراء الشوارع وقعت حوادث إنسانية تحمل طقوس تقام وسط زخات العيون الدافئة، فتختنقُ القلوب ليتكاثف الظلام في الأفق حتى ينساهم العالم ويختفي من حولهم في لمحة بصر.
فهل آن للقلب وحده أن يرى، أن يرى “منديل الصغيرة” كنجم متوهج يبحث عن وطن؟.
تلك المناديل التي يبيعونها وسط عراء الشوارع ودينهم دين غربة قاسية ثم في آخر النهار يمسحون دموعهم بهذه المناديل إن لم تُباع. لو نظرت تلك الصغيرة لنمت نظرتها الرمادية عن ميل مؤجل للأسى، لأنها لم تنعم بالفرح كباقي الأطفال. تسأل في لحظة ذهولٍ لما كل العيون تُلاحقني ويلتقطون لي الصور؟ ما الدافع؟ هل لي أن أهرب منهم ومن قسوة السؤال الذي يطرح لي؟.
لو تكلّم منديلُها لأخذ يسأل الغيب عن الأمل المنشود وراء العينين الرماديتين، لقد أخذت منهم الحرب الأمل والحلم والعائلة، ألقت بهم في صندوق التشرّد، كيف ستشرح لها هذا؟ كيف ستحميها من البرد بدل أن تأخذ لها صورة؟ هل أدركنا نحن أو وصلنا ذروة الإحساس بهم؟ لو فتشن وسط رُكام لا بل حطام عيونهم هل سيزهر في داخلك الربيع؟.
تقول أننا أحسسنا بها إذاً، جرد نفسك ليوم واحد من الأكل وارتدي لباس هشّة وخذ صندوق مناديل وأخرج لعراء الشارع، حيث الاستغلال والرّأفة، وقل بصوتٍ مرتعش من يشتري منديل؟. إذا كنت قادر على فعل هذا فأنت تستحق أن تسأل صاحبة المناديل الصغيرة وأنت تحس بوجعها التام، لكن إن كنت تسأل وتعود إلى غطائك الدافئ فأنت تسأل من فراغ، ولا يحق لك فعل هذا أبدا لأن الإنسانية إحساس وتجربة لبلوغ الفهم التام.
منديلُها الذي بلغ الذروة المُتفجرة التي يمتص منها رحيق الحياة وأحلامها في رشفة واحدة زائلة وقلقها منكم لكونكم تترقبون منديلُها أكثر منها لأجلكم لا لأجلها.
فمن سورة الإنسانية التي نرسمها بلا خيطة ومن شذا الياسمين الذي في عينيها تضغطون على قلبها بابتسامة تحمل سؤال فلها الحق أن تسأل بدلاً منكم من أنتم؟.
منديلُها الذي من النجم يومض من خلال براءة لم تتجاوز الأربعة سنوات تحرقونه بمجرد النظر لها، إذا لها الحق أن تسأل أين أذهب هربًا منكم؟.
طفلتي ومنديلُها الذي هو مكسبها الوحيد في هذا العالم الذي لا تملك منه لا ناقة ولا جمل، هو كنزها الوحيد تُلاحقها الكاميرا في كل مكان، لكن من يبلغ صوتها بصدق ومن يهتم؟ دعنا من الكلمات والشعارات، هي تدرك أن الشعارات صادقة، لكن الفعل من يستطيع أن ينقذها هذا الأهم. من ينتشلها قبل أن يأخذ لها صورة رمزية؟ من يقطف لها وردة؟ من يصطحبها إلى مكان تأوي فيه نفسها من البرد؟
لقد وهبنا هذا الكون سرًا جديدًا، وها نحن نقف فوق منديلها نسألها بدلاً من أن ندعها تسألنا نحن. هل لنا إجابة تشفي غليلها؟. لقد تنهد منديلها بإعياءٍ إلى أن فتحت عينيها الرماديتين ماذا يعني هذا الوطن إلا أنني لم أبرأ بعد من لسعات الشتاء وهيجان الصّيف؟. وقد شعر المنديل بألمٍ حاد _رغم صغر السن_ كأنه ألم حقيقي، لا عبث شيطان بحلم.
وكيف تفكر صاحبة المنديل المهاجرة من الحرب إلى الأسى بأن الحلم مثل اليقظة ولكن مهلاً، أين ذاك الذي يسألني؟ أين أحلامي؟ أين نجومي؟ أين أرضي وسكني ولماذا أعيش في عراء الشارع؟ ثم أين وجهتي اليوم مع منديلي؟ ومن سيلاحقني هذه المرة ليكرر لي نفس الأسئلة؟.
صاحبة المنديل وطفولتها المنسية تصبح محل اهتمام فقط عند إلتقاط اللقطة لها في أقسى حالاتها. رُبما سيعود لها يومًا منديلها المفقود يحمله معه وطنها ورُبما عندما يعود منديلها لن يجدها، سيبحث كثيرا لكن لن يجدها لقد ذبلت الوردة وماتت إما جوعًا أو بردًا. سيبكي منديلها وسيبحث عن يدٍ أخرى صغيرة وباردة لبيعه في عراء الشارع.
من شردتهم الحرب وهم أطفالا في سن الزهور لا يعرفون سوى الابتسام للكاميرا بعفوية من حقهم الحلم والعيش رغم أنهم على قناعة بالكارثة والتشرّد الذي حل بهم، ليس لهم من أحلامكم سوى حلم يتيم. صار مع الأيام المتدرجة هوسا يلدغ طفولتهم، فأرجوكم رفقًا بهم عند السؤال رفقًا بهم صدقًا.