من بوتلميت إلى آسا

بوتلميت مدينة تاريخية في ولاية الترارزة في الجنوب الغربي من موريتانيا، اشتهرت عبر التاريخ بكونها مدينة سياسة وعلم، 

آسا هي مدينة مغربية، وجماعة حضرية تابعة إدارياً لإقليم آسا الزاك بجهة كلميم واد نون جنوب المغرب.

(مترجم من جريدة ماريان، عدد بتاريخ، 13 فبراير 1935)

هاهو الآن بـ بوتلميت بعيدا في الزمان والمكان، هناك مدن خطيرة، بلا روح وقرى قاحلة، الحياة بها رتيبة. هنا في تَليل ننسى كل ذلك صحبة مجموعة المهاريست البدو المدعوة اكجوجت.

تسمى سابقا مجموعة الترارزة. تميزت بحيويةِ ونبلِ محاربيها، لكن في يوم من الأيام لحقت بهم الهزيمة. سبب ذلك أوامر جاءت من حاكمسان لويس تحثهم على الذهاب إلى جوف أم التونسي، وحدها صلبان الخشب والجُثوات الرملية شاهدة على مَن درجوا إلى جانب ماكماهون.

نظرا لاختفاء الجِمال وموت الرجال، تم الاستغناءعن تسمية الترارزة التي كانت شؤما على أهلها. المجموعة الجديدة تضم عناصر من الفيلق القديم وجِمالا مرقمة وموسومة بعلامةِ مرساةِ البحر الخاصة بالمجموعة القديمة.

أنا أعسكر مع المجموعة الجديدة منذ أربعة أيام.

بعد يومين في رحلة طويلة، وصلتُ ليلا إلى المرعى وفوجئتُ بالطريقة التي استقبلني بها الملازم ومساعده ومن يحيط بهما من فِتية في عمر السادسة عشرة يعملون في إطار الكوم.

في اليوم الموالي، بعد قطع الكثبان الرملية وسطَ فوضى القطعان، وصلنا إلى مكان تواجد الفيلق.

مثلُ هؤلاء الشبان أراهم في كل مكان: في ليل حول مائدة الطعام، في الخيام الخاصة بالاتصال، في زريبة الحراس أو في مربع الرماة.

طبائع عناصرِ المجموعة على اختلافهم، ضباط وضباط صف أوروبيين، حراس عرب ورماة سنيغاليين، كل هذا يشكل كلا متكاملا ومستقلا أثبت جدارته.

إذا كان الرماة يقومون بالحراسة دون كللفي المرعى، سواء هبت ريح الشرق الجافة أو جمد شعر القِرب من شدة البرد، وأتلفوا أيديهمفي نسج حبال الحلفة، وساروا على الأقدام لإراحة مطاياهم، عرضوا حياتهم للخطر، بل فقدها كثير منهم، فذلك لأنهم إنْ وصلوا إلى مراكز عملهم، مرة كل سنة على الأكثر، يتلف عون بالبرنس الأحمر، على صدورهم حمالةُ الخراطيش الحمراءُ الخاصة بمهاريست، تشجعهم على تحمل بؤس حياتهم اليومية علاوةُ الترحال التي تضاف إلى رواتبهم الشهرية.

بالنسبة للكوم، تعتبر المجموعة فرصة سانحة لكي يبرزوا غرائزهم. محاربون أبناء محاربين، يعيشون من أجل النهب والبارود، من أجل متعة الجولات الحرة وركوب الجمال الجيدة، من أجل الظهور بمظهر المحاربين على عكس أهلالقصور المستقرين، وهم يحتقرونهم أشد ما يكون الاحتقار.

تحِن الجِمال وهي تبرك قربنا. خرج مترجم القبطان ليلقي نظرة، لكن الوصيف ما لبث أنْ صاح: بيظاني قادم. أردف المترجم: إنه طرنيش.

صفق الوصيف مرتين، حيث لم يكن هناك باب يطرقه، وقال: هل يستطيع أنْ يدخل؟ أجل.

دخل طرنيش وجلس القرفصاء أمام القبطان وسلم على الحاضرين سلاما يطول أو يقصر حسب مقام المخاطَب.

فحصتُ على مهل ذلك الشيخ القصير الذي أخذ مكانه بالقرب منا. أعرفه بالاسم وقد سمعتُ عنه. ينتمي لقبيلة تتواجد بجنوب المغرب، بلغ بعض أفرادها إلى موريتانيا، أعرف أنه استقر بالمنطقة منذ سنة 1924 أو 1925.

يعَد من أكبر محاربي الصحراء، وقد حصل عام 1928 على بندقية شرفية كرئيس للكوم تكريما له على الخدمات التي أسداها منذ التحاقه وطمعا في مساندة منه في المقبل من الأيام.

رجل قصير، نحيف، ذو تكوين جسماني واهن، يرتدي دراعتين، واحدة بيضاء والأخرى زرقاء، يشدهما بحزام من جلد، يحمل من جهة حقيبة ذخائر، ومن الجهة الأخرى خنجرا من الفضة منقوشا بشكل مذهل.

يبدو غير مرتاح من حضوري رفقة القبطان، لكن عندما أخبره المترجم بحالي، اقترب مني بتواضع وقال لي: إنها لفكرة جيدة أن تتكلم عني. أعلم ألا أحد يعرف الصحراء مثلي من تنبكتو إلى البحر، من الأطلس إلى السنغال. لا يوجد بئر لم أشرب منه ولا قبيلة، سواء أكانت الرقيبات أو أولاد دليم، لم أنهبها. أنا الآن شختُ ووهنت قواي عن ذي قبل، لكني ما زلت قادرا على فعل ما يطلبه مني بيت المال.

قال لي القبطان: هل تعلم أن طرنيش ليس إلا لقبا؟ اسمه أحمد سالم ولد صمبة. طرنيش بلهجة أهل الجنوب تعني، حسب ما قال لي، نوعا من الكواسر.

غير صحيح، قاطعه المترجم. هو لقب أطلقه عليه الرقيبات ويعني قليلا من المال، ذلك أنهم يزعمون أن طرنيش لم يسلبهم إلا مبالغ قليلة.

في ذلك الوقت، تناول العجوز بصلف علبةَ المترجم الجلديةَ، أخذ منها كمية من التبغ، ملأ بها عظما له، أشعله وأخذ يدخن قبل أنيتم حكايته:

انطلقنا من آسا أنا ومَن معي، وهي عبارة عن قصر على قدم جبل باني. كنا 400 رجل، نحمل معنا 200 رصاصة، نصفها لبنادق من نوع موسير والنصف الآخر لبنادق من نوع ليبيل الفرنسية و74. ولدي 15000 كبسولة، بارود وماكينة لإعادة تعبئة الذخائر. تولى صيانة أسلحتنا بودرارة، المعروفون بمهارتهم في هذا المجال.

كانت ثقتي كبيرة في البداية. لدينا عدد هائل من الذخائر، محاربون أقوياء وجِمال لا يُرى لها مثيل. حرك رأسه تعبيرا عن الحسرة..

يوم الانطلاق… قال المترجم بالتاريخ الميلادي: 14 غشت 1913.

نمشي على مهل ما دمنا نجد المراعي. واد إيدو الذي يجري فيه الماء، حاسي الفُقرَا حيث سنشرب على بعد ساعة منه.

لم نكن على عجلة من أمرنا، خصوصا أن المراعي جيدة، ثم إننا نسير ببطء كي لا نتعِب الجمال. سرنا بتمهل إلى عيون عبد المالك ومشينا بمحاذاة جرف الحنك في اتجاه الجنوب الغربي. تزودنا بالماء من المرزب، وأخذنا قسطا من الراحة بالكسيب، فأمامنا شوط صعب من أجل نهب منطقة النعمة وولاتة ونيورو.

قفزتُ فرحا لأني أعرف الموقع الجغرافي أكثر مقارنة مع الكسيب، وهي بئر مفقودة في مكان خارج المسالك المعروفة، تحميها من الزوار صحراء مترامية الأطراف.

النعمة، ولاتة ونيورو هي مناطق شبه صحراوية منفصلة عن بعضها البعض.

لما لاحظ طرنيش فزعي ضحك ضحكته الهادئة.

أفترض أنك تعرف خارطة الصحراء. ربما عليك أن تفتحها لتتابع معي.

حين فعلت ما أراد، بسط أمامه رسما تخطيطيا، محددا مكان عين الماء بعود صغير.

هاهو الكسيب أليس كذلك ؟ انطلقنا مسرعين في اتجاه الجنوب، معرجين شيئا ما إلى الغرب. تسعة أيام بعد ذلك… أشار إلي بيديه الاثنتين تاركا أصبعا مطوية.

تسعة أيام بعد ذلك، شربنا من ماء تاكورارت.

بحثت عن الموقع على الخارطة. يبعد عن الكسيب بحوالي 600 كلم، لكن طرنيش أشار للمكان باستعمال العود مراعيا سُلم تصميمه هو.

الماء مالح لكنه كاف لحاجتنا. ما كنت أخشاه أنْ يباغتنا جنود المراقبة التابعون لفيلق النعمة. أسرعنا إلى البيضة ولو أني كنت أشك أننا نجد بغيتنا هناك. وأنا أشاهد الخارطة عرفت أن 2000 كلم تفصل طرنيش عن آسا، قاعدة انطلاقه، وهذه المسافة تمثل الجزء المجهول الأكثر رعبا وخطورة في الصحراء القاسية.

ضحك طرنيش وقال : لهذا كنا مستعدين للنهب، فملابسنا تقطعت وأضحت أسمالا بالية، لكني، اعتدت في الحالات الحرجة ألا أعول سوى على نفسي، لذلك اصطحبت أربعة رجال للقيام بتفقد المكان. صادفت رجلا أسود وقلت له: سنقتلك لكي لا ينكشف أمرنا، فطلب الانضمام إلينا مقابل تركه على قيد الحياة.

هددته مرةً أخرى وأذعنت في آخر المطاف. أخبرنا الأسير بوجود مرعى (عزيب) قريب به أكثر من ألف رأس من الإبل، يحميه محاربون مسلحون أشداء عددهم يتراوح بين 400 و 600.

كنت أرغب في وضع اليد على تلك الجمال لا أتصورها لأحد غيري.

أخذت الأسير إلى ركن لأحصل على معلومات إضافية منه قبل قتله. عند رجوعي وصفت لهم جمال القطيع والبعران التي سنشوي، حيث لمنذق طعم اللحم منذ مدة. شرحت لهم وضعية الخصوم وحاولت التقليل من شأنهم بعدم الإفصاح عن عددهم الحقيقي، حيث قلصته للنصف.

قسمت رجالي إلى مجموعات وبدأنا إطلاق النيران.

لينطق هذه الجملة، أغلق الناهب العجوز عينيه بنوع من الفرحة الرقيقة والمتوحشة في آن، كأنه يعيش عملية الهجوم المتقنة تلك مرة أخرى. بعدة برهة أضاف:

“في غضون ساعتين، فصلنا أعداءنا إلى قسمين واستطعت أسر زعيمهم. أخذته معي في الساعات الخمس الأولى وحاولت أن أوهمه بمدى قوتنا وبأني على رأس جزء بسيط من مجموعة كبيرة من المغيرين، وتركته في الطريق المؤدية إلى انجنسن.

علمت في ما بعد أنه أقنع مَن كان يطاردنا بالتراجع، بعد أنْ تيقنوا أنهم غير قادرين على مجابهة الحَركة التي لم تكن سوى من نسج خيالي.

سرنا مسرعين إلى عين بويرات تيكفي، ولما التحق بنا حراس الخلف وتأكدنا من ألا خطر علينا، نمنا وفي الصباح عبر رفاقي عن رغبتهم في اقتسام الغنيمة.

ونحن نناقش ونتنازع فاجأنا القبطان ماركوني ورجاله بغفلة من عناصرنا المكلفة بالمراقبة واستطاعوا تشتيتنا. بإشارة من يديه، وصفلنا تدخل المهاريست الفرنسيين على معسكره.

لقد عملوا على تشتيتنا كمن نفخ في حفنة رمل، فوجدت نفسي بمعية أخي وثلاثة رجال لا غير. لم يكن في حوزتنا لا قربة، لا مطية ولا سرج. كنا نحتفظ ببنادق وبعض الذخيرة. عراة مفقودين في الصحراء. أمضينا اليوم كله في عملية الفرار نحو تاكورارت وكان علينا إخفاء الأثر لتجنب المطاردة.

تاكورارت نقطة ماء تكاد تكون غير معروفة ولم أشأ أنْ أدل عليها العدو. رويدا رويدا، يوما بعد يوم، التحق بنا 55 رجلا حفاة وفي وضعية مزرية مثلنا أخيرا التحق بنا الرباني ولد حمدي، الذي أصبح من تلك اللحظة زعيم أيتوسى. جاء الرجل محملا بخبر سار مفاده أن ماركوني قرر التراجع عن مطاردتنا حفظا لما حصل عليه من غنيمة. 

جاك زميرمان، مبعوث ماريان الخاص.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي يوث.

Exit mobile version