من يهم ليكتب الحقيقة أحرفا يفقد بوصلة أصابعه، فتغدو أنامله تماثيلا مخبوءة بالعتمة، تتدلى منها قطرات الأمل المقدّسة عهرا، فحوادث التحرش ليست أكثر شناعة من حوادث الاغتصاب؛ لكنها حظت بغوغاء أكبر، كيف ولماذا؟..
هنا يظهر استفهام كبير حول المعيارية المختلة في أذهان الناس تجاه قيم الوجود..
فلا شك أن يقظة المواطن صفة ضرورية لحراسة قيم الحياة ككل، لكنها تصبح يقظة متماطلة حين ترتفع في قضية وتخفت في آخر..
أرأيتم كيف ينزف صوت إحداهن وترتجف حنجرتها وتتساقط كرامتها بسبب اغتصابها من طرف والدها؟..
أرأيتم وجه أم فتحت فاهها وهي تستنجد بالموت، ثم تكوم الكلمات على شكل حجر بعد أن اغتصبت بناتها الستة من طرف والدهن؟!..
أأختبرتم يوما كيف تتساقط الحروف ممزوجة بسعال ودم بعد أن يكبل الأب ثم تخطف زوجته وبناته ويغتصبن؟!..
هنا يتلكأ المعنى على كتف اللسان، فيوما ما سننقرض كنسل منتهي الصلاحية، أو سنموت بلعنة مشيدة بالبصق، يوما ما ستتجمد جهنم ببرودة الضمائر وموت الإنسانية..
هكذا بلغت جرائم الاغتصاب مداها في مجتمع يزعم المحافظة، وتوجوها بجرائم الشرف الوحشية الثلاث باغتيال زوجات من قبل أزواجهن، لأسباب يزعم أنها تتعلّق بالشرف.. كل هذه التساؤلات بعد أن عبأتها في قارورات وتأملتها وجدتني أموت عطشا، في أرض اليباس والبلل..
ها هي الذاكرة تنزف على صهوة الألم، وها هي شوارع موريتانيا تفتح ذراعيها من بعيد لكل متحرش ومغتصب وقاتل، وها نحن نتمعن في الابتعاد مخافة أن يرى صوت الحق وهو يخترق أسارير محيانا..
أصبحت أعضاء أجسادنا مكومة على رسغ الأيادي، مصلوبي الصوت، ملعونين بالصراخ المكتوم قسرا..
ولأن إسقاط تكليف الصراخ أخف وزنا عندي من إسقاط تكليف التخمين، سأحدثكم عن صراخي الملجوم:
هل عندكم نبأ عن “عائشة حمادي”؟…
ذياك الصوت الذي أعاد الحياة لضمائر أرادت يوما الحياة، أعادت توهج النبض كزهرة نار، صرخت فأطلقت العنان لأصوات أدارت الكلمات في الأفواه، ثم بلعتها مخافة الغوغاء، هكذا أمست القداحة تعطينا جمرا مشتعلا، ينمو سريعا فيتضخم السكون حرقا، سكون حمل اللعنة في المنطاد بعيدا، لكن شوكة حقيقية استطاعت تحطيمه في لحظة فلم يعد أي متحرش أو مغتصب يهوى المرتفعات..
حروفنا هي اليد الوحيدة التي تصفق حينما تتلاشى القيم، التي خبئت بالفطرة بين الضلوع؛ ليخرج النص ثائرا بين أياد مبتورة، نص يقبض على الحقيقة من ظفيرتها ويرميها خارج الأسطر، منشطرة تتعفر في رماد حرائق الأبجدية، المُسخرة لخدمة الذل والمهانة، وحدها الحقيقة من يشتق منها ضلع الكتابة، وهي الهيكل القدسي الذي يُخرج من أعمدته أسطرا صارخة، ما لم يتخلخل منها واقف، ولأن الحقيقة ممهورة في الدم، فالعالم إلى اليوم لم يفقد تعطشه للدماء..
حتى أن بيوت الله لطخت ألواحها بأسماء غزوات فاتحة، وقبائل باسقة ثم أصول كادحة، وألواح أشعلت النار في قلوب عارية تسيير بين صفحات تاريخ معطوب ومغلوط..
أنقذوا موريتانيا قبل أن يلفحكم ذل الأسئلة، يوم لا ينفع صخب صمتكم الهادر، شوارعها الطويلة لم تنجب ظلا يقيكم خبث القدر، في احتضارها المقيت، احملوا فرشاة وزينوها بألوان الطيفِ، لتمسحوا عن ملامحها حوافر اللّيل، فتروا فجراً يشع على خد الزقاق..