إنه لمن الروعة بمكان، أن تستسلم مدن الرياح والعدم؛ لسكينة الكرى، وهدوء الفجر، إذ تنغلق على صخب يقظتها نومًا، وتترك المجال أمام صخبك الداخلي، ليضطرم ملء اللاطمأنينة التي تغلي في مراجلك، ولا يقضها سوى مواء قطة تناغي الدفء وتنعي ما قتله البرد فيها..
في غمرة ذلك البرد اللعين، وفي عمق شوارع المدينة القميئة هذه، رفعت رأسي رغم الجرح الغائر الذي عاد عبثا إلى النزف، كأنه قد أقسم على توصيلي نحو منطقة الحتف؛ رفعته ببطء شديد وسرت أنظر نحو البعيد، ذلك البعيد المجهول المعالم، الذي يقف وراء بحر سرق السواد زرقته، كالمستقبل الخائن والجبان، الذي سرق حاضر الكل.. أمشي مترنحًا وأنا أردد هذه الكلمات العذبة للشاعر الإسباني “أنطونيو ماتشادو”، التي حلى لي تشابهها معي:
“أيها العابر، آثارك هي الطريق، لاشيء أكثر..
أيها العابر، ليس ثمة طريق، تتشكل الطرق عند المسير”..
آه يا شاعر إشبيلية المشبوب بأثر الحمراء في أندلس مفقود، ليتك تعرف كم أهفو ولو بشكل يلفه الغموض، إلى معرفة أين تقودني خطواتي العشواء، إلى أين؟!!..
تسألني ذات بداخليلا زلت أتعجب كيف صبرت على رفقتي طوال ست وعشرين سنة، تسألني بشفقة رفيق مل عربدة رفيقه الذي لا يستطيع التخلي عنه:
– ما بك يا هذا؟..
– لا شيء، منهك ومنتهك حد الاغتمام..
– أين نزقك، عنفوانك، أم أكلك الدهر وأنت في أوج شبابك..
– رصاصة واحدة كانت كافية لأسقط في ميادين الحياة، سقطت وأنا أحمل علم “حياة كالحياة”، لكن بندقية الألم كانت في يد قناص القدر أسرع من الصوت الذي كان يتحشرج في حلقي..
– ااممم، يبدو أن ما كان بداخلك قد مات فجأة، ونبت مكانه شخص آخر..
ثم صمتت، واندثرت في عمق الظلام، لأكمل المشي وحيدا متوحدا بخطوات ثقيلة متوحشة، كأني سكير لم يغادر الحانة حتى دفن صحوته في آخر زجاجة نبيذ متبقية، بعدما أحكم غلقها عليه..
سرحت برهة وأنا أنظر إلى جنبات الشارع، فتخيلت أني سرقت قبلة من شفاه القمر الحليبية، غزلت جدائله مغازلة للمستقبل الطفل، وناغيت سدرة المنتهى مرادا للسعادة، كي لا أنعي غوابر الأحلام التي غسلت يديها مني..
الغريب أنه يغريك صمت مقابر الأحياء هذا، ويغوي مونولوج البوح فيك، ويفتح لك باب سؤال الذات على مصرعيه، وهي تشهر من بين مفاصل حديده أزيز استفهامها تعجبا، قبل أن ترحل عنك، وقد ملت كلك وبعضك، كيف تحملتك كل هذا، وأنت أثقل مما تبدو عليه؟!..
سؤال يصل بك ذروة العذاب والألم النفسيين، ينفخ في ناي ذلك العذاب نسيم الصباح، رائحة البحر، مواء تلك القطة، صوت السيارات التي تمر لماما في هذا الليل الغربيب والغريب، بفراغه من عشاق الليل وهول حندسه على وقع كؤوس الشاي المعشقة بـ”العلك” والنعناع، بسملة “أحمد” وهو يستيقظ لصلاة الفجر، مصدوما ممن دخل لتوه من تجواله مع ذاته، التي ملته، فتركته، وتركها في الزقاق وصعد يحرص ظلها على ناصية الشارع الضيّق، جسارة الكلام الذي لجلج في صوتي بيني وبيني، وفر حين هممت كتابته، رداءة ما أكتب الآن بمأساة تحاول فهمي قبل ترجمتي، معضلة الخيانة في الترجمة، ومحصلة البوح المر في حويصلة نص يشوبه اختلال ونقص، أرغمته على تحمل كبت أنيني..
قبل أن استلقي في الفراش، متكومًا على نفسي كالجنين في بطن أمه، وأغلق كل نوافذي المشرعة على العالم، فقط لألعق في صمت مرير جروحي النازفة، وأنا أنتظر متى يخرجني صمت النوم من ضجيج الصحوة، ولو إلى حين..