في السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول من عام 1955، تم تعيين الملازم بيران، القادم من الهند الصينية، بقسم الشؤون الأهلية بالمغرب. وبعد ثلاثة أيام أقلعت به الطائرة من مدينة مارينيان في اتجاه الرباط وهي، حسب عبارته، مدينة ذات شوارع عريضة، مرسومة بشكل جيد، حيث البنايات الحديثة تجاور أخرى من الماضي السحيق، ومن الرباط سييمم شطر أﮔادير للقاء العقيد دوفورست، الذي اشتغل في عقد الثلاثينات بمركز أسَا، وقد ترك لنا عنها نصا مرقونا عنوانه دراسات حول أيتوسى، ثم ﮔليميم، مدينة الأساطير الزرق، كما يحلو له القول، فَأسَا التي سيأخذ فيها مكان النقيب لوزور المتوجه إلى الجزائر.
فور وصوله إلى أسَا، قال له سلفُه المتأهب المشتاق للرحيل بنبرة من يأنف من الإكثار:
القبيلة التي سوف تقودها، أيتوسى، قبيلة بدوية تمارس الترحال بين وادي درعة والساقية الحمراء، في المنطقة الإسبانية، وفي اتجاه الغرب إلى حدود تينفوشي.
صادف وصولُ الملازم إلى أسَا وقتَ تنظيم موسمها الكبير، فلم يفته، وهو يتجول في سوقها، أنْ يلاحظ سِمة رئيسية لدى أهلها، سيبني عليها لاحقا طريقة تعامله معهم حسب الظرف والسياق:
هؤلاء ضرب من الناس إمعانُ النظر في إبلهم الكئيبة أحَب إليهم من النظر إلى الزخارف الذهبية لقبعتي العسكرية الجديدة. إنهم واقعيون وحالمون في آن، وفوق هذا وذاك مؤمنون بالقدر خيره وشره. مع أمثال هؤلاء يبدو التفاهم ممكنا.
اندمج الضابط بسرعة مع أفراد الكتيبة التي تعمل تحت إمرته، وبات يدخل دُورهم ويشاركهم الطعام والشراب، وذلك لما لمسوا فيه من لين العريكة، هم الذين كانوا يحتاطون مع بقية الأجانب ولا يسمحون لهم بدخول ديارهم تحت أية ذريعة. وها هو يصف أواني الشاي عندهم، وهو أول ما يتلقى به الصحراوي ضيفَه الكريم:
شرع الصحراوي في إعداد الشاي. كانت مباركة قد أحضرت صينية نحاسية منقوشة، صُفت عليها بعناية مجموعة من الأكواب وبراد من النوع الذي يُرى عند البدوي البسيط وعند الوزير على حد سواء، وعلبة معدنية بها أوراق الشاي المجفف. منديل عربي يغطي الصينية لحِفظ الأكواب من الغبار والذباب. يُضاف إلى هذا مجمر بأرجل ثلاث، به كمية من الفحم المتقد وعليه إناء يحتوي على ماء ساخن.
يخرج الضابط أيضا، مع جنده المخضرمين، في رحلات صيد هي أكثر ما كان يهوى، لأنها تسمح له بالاسترواح قليلا بعيدا عن متاعب الإدارة، واستنشاق الهواء النقي في المراعي الممتدة والجبال التي تلجأ إليها الغزلان والأراوي هروبا من نيران البشر الفتاكة. وقد أعجِب كثيرا بمهارة رفاق البندقية في القنص، لذلك حرص، طيلةَ مُقامه بالمنطقة، على تزويد كل مَن أخذ منهم إجازتَه، وأراد الالتحاقَ بذويه في البادية، بالرصاص كي يتمكن في طريقه من الحصول على غزالة أو أروية. ومن أجمل المشاهد التي نقلَها لنا بهذا الصدد نذكر الآتي:
برزت الغزلان، مجتمعةً، على بعد مائة متر من أعلى المرتفع الذي كان يحجبها عني. خمسة من ضمنها رشَأ. تتقدم نحونا على مهل برشاقة. سمعتُ صوتا على يساري يحاكي صوتَ ذَكر ينادي أنثى. توقفتِ الغزلان وأخذتْ تنظر إلينا. وضعتُ سلاحي على كتفي وأطلقتُ النار. قبل أنْ أنظر إلى حيث رميتُ، مر بالقرب مني ما يشبه البرق. اخترقتِ الغزلان الخط الذي كنا رسمناه بأجسادنا.
– أصبتَ غزالا في الرقبة، صرخ النفاع وهو يحمل سكينا.
حصلنا على اثنين. النفاع قد أصاب الآخر في الرأس. الصحراوي ولو أنه رام ممتاز قد أخطأ هدفه.
الكتيبة التي يترأسها الملازم مكونة من أهل الجمال، مهاريست بالاصطلاح العسكري (واللفظ مشتق من مهري، جمعه: مهارى، وهي إبل منسوبة لقبيلة مهرة، وقد دخل اللغة الفرنسية بالصفة المشار إليها وهو متداول بالجزائر والمغرب على وجه الخصوص، إذ يدل على فيلق الجمالة)، لذلك اضطر لأن يركب الإبل ويلبس الزي التقليدي المسمى دراعة، وهنا يعطي فكرة عن أول مرة امتطى فيها جملا:
ما إنْ خطا جملي خطوة إلى الوراء حتى نهض في حركة مفاجئة مثيرا غيمة من غبار. نسيتُ أن هذا الحيوان يرفع أولا قائمتيه الخلفيتين فكدتُ أرتمي من فوق رأسه. حال القربوس دون ذلك. أكمل الجمل نهوضَه فوجدتُ نفسي في ارتفاع هائل. نظرت إلى الصحراوي المعروف بمهارته في ركوب الإبل. دابته حرون وهو يرتدي دراعة واسعةَ البنائق تلعب بها الرياح في كل الاتجاهات. عَدلَ كُمي دراعته بحركة أنيقة ومدروسة وامتطى جمله. ما نشبتِ الدورية أن انطلقت فامتلأ الفضاء من أصوات الإبل والآدميين. يسير جملي في أثر الآخرين. سرعان ما ظهر لي أني أخطأت تقدير ما يوفره الرحْلُ من راحة للجالس عليه. فاهتزاز الجمل يجعل الراكب يميل تارة إلى الأمام وأخرى إلى الوراء. يحتد الأمر عندما تحث الإبل الخطى.
بالرغم من انسجام الضابط الظاهر مع المخازنية (أي أفراد القوات المساعدة)، إلا أنه كان يشعر، خلال حصص الصيد خاصة، بحجم الهوة التي تفصله عنهم، إنْ على المستوى الثقافي أو العقدي، الشيء الذي عبر عنه بوضوح لا يخلو من مسحة جمالية في المقطع التالي:
تحولَ لونُ الجبال إلى الأزرق الداكن. شرع المخازنية في أداء الصلاة بصفة فردية وبالتناوب على ألويش (وهو فراش يُتخذ من جلد وصوف الخروف). يستعملون التيمم كما يسمح به القرآن في الأماكن التي ينعدم فيها الماء. في مثل هذه المحطات، حيث يَعُم السكون، وأنا أنظر إلى مهاريست وهم يُصَلون بينما أنا قابع في مكاني، أدركتُ طبيعةَ الحاجز الذي يحول بيني وبين تحقيق التماهي معهم. معتقداتنا متضاربة بقدر ما هي متقاربة. تناولنا العَشاء على ضوء النار. بعد الشاي، بدأ الاستعداد للنوم. جمع المخازنية أمتعتهم، وضع كل واحد منهم بندقيته إلى جانبه وغطى وجهه بِقُب برنسه. ألفيتُ نفسي وحيدا على ألويشي، أدخنُ ما تبقى من غليوني، وأنا أتأمل النار، النجوم وأشباح الإبل والبشر.
عاد بيران إلى بلده سنة 1957، بعد فترة أسْر قضاها عند جيش التحرير، ومات قبل أنْ تُنشر مذكراته، التي تولى طبعها صديقُه الإعلامي مارسيل جوليون عام 1979. في الواقع مارسيل هو الذي حرر النص انطلاقا من مرويات بيران، وهو منتج تلفزي كان على رأس القناة الثانية الفرنسية عندما ظهر بها أحد أهم البرامج الثقافية، وأقصد برنامج ابوستروف، بتقديم الصحفي المرموق برنار بيفو، الذي تمكن خلال خمسة عشر عاما من استضافة نخبة من الفلاسفة والأدباء من شتى أنحاء العالم، أمثال ميشيل فوكو، ليفي شتراوس، دوريس لسينغ، محمد خير الدين، محمد شكري…
أراد الملازم البقاء في هذه البلدة التي أحبها وأحب أهلها، وانساق مع عاداتهم وبدأ يتعلم كلامهم، لكن القوم انتزعوا استقلالهم وقرروا أخذ زمام أمورهم السياسية بأيديهم، فما كان منه إلا أنْ أذعن للأمر الواقع ورحل إلى فرنسا. جاءت طائرة من أﮔادير لنقله ونقل متاعه لتخلو لأهل الأرض أرضهم، وهكذا انتهت المذكرات، المليئة بمعلومات هامة – ذات طابع سياسي واجتماعي- عن فترة انتقالية حساسة، لا يسمح المقام بالوقوف عندها، تُطلب في مواضعها من الكتاب، الذي تولينا ترجمته إلى العربية تحت عنوان مقامي بأسا، وهو متوفر بعدد من المكتبات بالرباط، مراكش، أﮔادير، أسا، ﮔليميم، العيون- قلتُ انتهت بالعبارات المقتضبة، الدالة التالية:
أقلعنا. بعد استدارة أخيرة، حلقت اليونكرس52 على ارتفاع منخفض فوق المركز. إلى اللقاء يا أسَا. وإنك لتعرفين كم أنا حزين!