كانت تلك أول مرة أجلس بجانبك دون أن تسألني عن دراستي ومساري، أحادثك دون أن تكترث لي، دون أن تمازحني بالجملة الشهيرة التي قلتها لك وأنا في الثالثة من عمري، فصرت تذكّرني بها كلّما طال الغياب والتقينا من جديد مفتتحا سؤالك لي بهل تذكرين.. عندما كنتي صغيرة؟ وراسما على وجهك تلك الابتسامة التي مازات مرسومة في مخيلتي.
كان وجهك هذه المرة شاحبا يغطيه الغموض، تمعن النظر في كل من بالغرفة، وكأنك تبحث عن مفقود، تحدق بأرجاء البيت وكأنك وضعت في مكان غير مكانك أو زمان غير زمانك. ترسل نظرات تائهة وكأنك تبحث عن كلمات مفقودة.
بدأت تدور في خاطري العديد من الأسئلة: ألم تذكرني فعلا أم أن المرض أتعبك ولم تستطع التعبير عن حبك واشتياقك لي؟ كنت بطريقة أو بأخرى أحاول أن أخلق أعذارا، أن أجد أجوبة قد تكون غير مقنعة لكنها تجنبني التفكير ولو للحظة أنك قد أُُصبت ب ألزهايمر كما أخبروني. لم أكن أعرف الكثير عن هذا المرض، كل ما أعرفه هو أنه مرض يصيب المخ ويتطور ليفقد الإنسان ذاكرته وقدرته على التركيز والاستيعاب والإدراك، وقد يتطور ليحدث تغييرات في تصرفات المريض فيصبح أكثر عصبية ويعيده إلى نقطة البداية منزوع الذكريات الماضية وغريبًا في بيته. لكن لم أتصور أنه بهذه الحدة أو بالأحرى لم أتخيل يوما أن يصاب به شخص عزيز.
مازلت أحاول تبرير تصرفاتك وأجيب بنفسي عن أسئلتي حتى أتاني الجواب الذي أسكت الضجيج بداخلي، حين توجهت إلي بأسئلة لا تمتني بصلة وكأنك تخاطب شخصا آخر لا حفيدتك، وقتها فقط استسلمت للحقيقة، وراودتني أسئلة أخرى:
كيف للإنسان أن ينسى أبناءه الثمانية، ألا يذكر أحفاده الستة والعشرين، أن تتلاشى من ذاكرته سنوات غربته وملامح رفاقه بها، وتحل محلها غربة شخصيتة الجديدة، وأن ينسى عشرة عمره ورفيقة دربه لعقود، أن يتلاشى الأمس ويندثر وكأنه لم يكن يوما، ويحل محله حاضر ليس بدوره سوى وهم سرعان ما سيصبح ماضيا منسيا ربما بعد خمس دقائق أو عشر. ألا تدرك أن كل ما أنت فيه اليوم هو من صنعك أنت من عرق جبينك، من كفاحك وإصرارك.
بحثت عنك فيك ولم أجدك، وجدتك أنت ولكنك لست أنت، أمعنت النظر فيك علني أجد هويتك المفقودة. أيقنت حينها ضعف الكائن البشري، ففي لحظة من الزمن قد ننسى كل ما صنعناه، ما سعينا له وأفنينا عمرنا في تحقيقه، نتلاشى لنصبح جسدا بلا ذاكرة، يضيع الوعي الذي أمضينا به رحلة عمرنا لتبقى لنا ذاكرة واحدة هي ذاكرة النسيان، لا شيء مضمون.. كل شيء زائل لا محالة.. أجسادنا.. ذاكرتنا.. ماضينا وأعمارنا لا تساوي شيئا أمام عظمة الله وقدرته.لا شيء في حياتنا يدوم، كله زائل كالغيوم،لا يبقى سوى ذكريات الزمان والمكان، غير أنه في حالة جدي حتى هذه الذكرى زالت.
فهمت وقتها معنى الآيتين الكريمتين: “وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِير”، وقوله تعالى: “لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا”.
لم ينقص ذلك من همتك وقيمتك شيئا، مازلت في نظري جدّي “الحاج العربي” ذا الجلباب الصوفي الأبيض، الذي يحسب له ألف حساب، ذلك الرجل الخارق الذي يحترمه الكبير والصغير،الشريف الذي يمسك عكازه قاصدا المسجد في كل صلاة.
لم أسأم يوما من محادثتك حتى وإن سألتني السؤال نفسه خمس مرات، آملة في أن تذكرني يوما ولو للحظة، وحتى إن لم تفعل لا يهم يكفي أنني أعرف من تكون، كنت تذكرني برهة وتضجر من كل من حولك ساعات، لكن لم أمل من ذلك يوما.
ندمت فقط عن كل مرة اتيحت لي الفرصة لأزورك ولم أفعل، حب الأم والأب والجدة والجد ليس مجرد زيارات نهاية الأسبوع، ليس سوى واجب علينا إتمامه فقط ،إنه مهمة تتطلب منا بذل الوقت والبحث عن طرق لنجعل أيامهم أفضل.
لم تتحقق آمالي، فمرضك كان يتفاقم كل يوم وتحولت في بضعة أشهر بقايا إنسان، ذاكرة تتآكل يوما عن يوم، فقدان تدريجي لمهارات طبيعية كالأكل واللباس وكأنك طفل صغير، بل الصبي يكبر ويتعلم، لكنك تكبر وتنسى ..صدقوني معاناة لا يقدرها سوى من عاشها أو يعيشها.
لطالما كنت أردد أن النسيان نعمة، أن ننسى جرحا جرحَنا إياه الزمن أو أزمة مررنا بها، شخصا يستحق أن يوضع في أرشيف النسيان. كنت أظنه بلسما لتلك الجروح والآلام، لذاك الداء الذي استوطن قلوبا وبات من الصعب علاجه سوى بالنسيان. لكنه في حالة جدي لم يكن كذلك، بل كان نقمة سلبت منه ذكرياته السيئة وأخذت الجميلة معها، وتحول النسيان من دواء إلى داء ينهش ذاكرته، يسلب منه ما أراد نسيانه وما لم يرد، ليصبح بلا ماض.. بلا ذكريات.. بلا أمس.
مرت شهور قليلة أو أقل بعد إصابته بداء النسيان ورحل بعدها، وكأن جسده لم يتحمل موت ذاكرته فقررا الرحيل معا، رحل ذات ليلة جمعة تاركا دموعا أغرقت المكان، ودعنا هو الآخر بدمعة علقت بجفن عينه المنهك، لا هي نزلت ولا هي رحلت معه، رحل تاركا آخر وصية له تلك الليلة أوصى بها خالي الأكبر قائلا: “أخواتك أمانة في رقبتك”، وكأن ذاكرته رأفت بحاله فأبت إلا أن تستجمع له القليل من الإدراك كي يكوّن جملته هاته ويغادر، وكأن نظرة مسبقة كانت له لما سيحدث بعد رحيله، غادر ورحلت معه ذاكرته المنسية، رحل بذاكرة فارغة وترك عيونا جفت من الدموع.
استرجعت شريط ذكرياتي معك، يوم زرتنا في البيت وحملتني على كتفك فبادرتك بالسؤال: هل أثقلت كاهلك يا جدي؟ فضحكت من براءة الموقف فقد كنت في سنواتي الأولى وأزن بضعة كيلوغرامات، تذكرت أيضا حين كنت أنتظر العطلة المدرسية بفارغ الصبر، لأجدك جالسا بفناء البيت منتظرا مجيء أحفادك واحدا تلو الآخر، أصبح المكان تعيسا في غيابك يا جدي، ومازال سريرك خال منك وسيبقى إلى الأبد، ساعتك اليدوية أيضا لا أحد سيحركها من مكانها أعدك، لم يعد لي عزاء اليوم بعد فراقك سوى أنك نائم الآن، مستريح من ألم النسيان ومن ضجيج ذاكرتك المبعثرة من هاجس التذكر،
بعد كل هذه السنين على رحيلك، لم أكتب لك سوى اليوم فقط، ربما أكون قد اشتقت لابتسامتك، لنصحك، لغضبك، لكلمة جدي، لأثر وجودك في البيت، لتقبيل يدك، لهيبتك في البيت التي رحلت معك، اشتقت لأن تناديني باسمي، لأجلب لك بعض الماء أو لأحضر لك عصاك، أو ربما لكل ذلك.
أما بالنسبة لي فلم أعد أعترف بالنسيان كنعمة، وصار في نظري نقمة لأني لا أريد غيرها تلك الذكرى، التي لا أرغب في نسيانها، وستظل عالقة بي بقدر ما أنا عالقة بها، وهي ذكرى جدي الغالي. رحمك الله برحمته الواسعة، وأسكنك الفردوس الأعلى، وسلام عليك في كل حين.