موريتانيا ليسَت وطناً آسراً، الوطن الذي يتخلّى عن زهراتِ الجبل وزينة النشيد، الوطن الذي يغير العلم، فتتغير معه كل معالم الوطن، فتخلوا سماءه من زرقتها، وهواءه من نسيمه، وجداوله من خريرها، وأزقته من ملامح الحياة ليسا وطنا..
الوطن الذي تغيب فيه إشراقة شمس الحياة، ويلجم القُبلات الوطنية البكر في شفاه ثرى القلب، ويمعن توغيل حوافر اللصوص وقطاع الأرزاق ألما، ليس منبتا..
المواطن الذي يتلمس شرايين وطنيته، ثم تطفوا في دمه تضاريس الخيانات، وما دبر بليل لا يملك بيتا ولا وطنا..
كلما حل المساء حملت آمالي على كتفي، لأجوب شوارع المدينة، التي لا تشبه المدينة، قدر ما تشبه خلاء إسمنت وقفار حديد قميئة، حيث نبت الملح في أكمام الياسمين.. أمعن النظر، وأبحث في النبضات المتداعية للسكوت، عن بقايا رائحة ضمير، كي أوزعها علی المشردين والثكالی والمسحوقين.. أمعنه جيدا مرة أخرى، وأفتش عن بقايا من ثاروا ذات طغيان وعناء، لأزرع فيهم عناقيد أمل ورجاء، علهم يبعثون من أنفسهم؛ من يقف في وجوه الطغاة.. فأقبض الماء سرابا، والدم مراقا، ينسال من فروج أصابعي خيبة وخذلانا..
أرى الوهن في مرآة الريح، علی جبين المسحوقين، يحفر ستّين أخدودا كسيحا، وفي كل أخدود يحتضر الوطن، وقد تحشرج علمه ونشيده المسلوب، في حلقه، تحشرجت نباته المرمد، وأزهاره شوكا..
أرى استكانة الناي، واليراع مسلوبا منهوبا ومصلوبا، منذ ستين عجافا من الزمن، وريشته اغتيلت مذ تسع مائة شمس، وألف قمر، والكل يتنفس لعنتها حلما بوطن، يشبه وطنا، لا يسوده رذيل ولا عميل..
إنه وطن ولد فيّ، قبل أن أولد فيه، نيطت علي تمائمه، قبل أن آتيه ليلا، فلم أعثر على ذرة وطني-الحلم، وأنا أجوب شوارع «مدينة الرياح» دون حذاء، أحاول إيجادها في كل الوجوه وأسأل عنها كل حجر، أمد ذراعي لأنتزع وجهه من أعين المستحيل، فيعود ذراعي بلا ذراع..
ما عادت الأمنيات تشبع فم الجوعى، والأغنيات الحماسية، صارت محض نكات ترتله جوقة الحرمان، بينما عين الطفولة في أزقة مجهولة تشد سراب براءة منتهكة..
كنت أحرصُ على أن أتنفّس ببطء، لئلّا أوقظ الألم المدفون بقربي، لئلّا أوقظ وحوشه في هذا الإغتراب الفسيح، الذي لا ينتهي، إلا ليبتدئ..
لئلا أضيع في أرض قاحلة، تشقتت تربتها بوارا، وشقت أحذية العسكر نياط قلوبها..
هنا، فيك يا وطني-الكابور، لا نفق ضائعٌ يتمخضُ من رَحمها، يؤدي لأعشاشِ النجوم، ولا رمز يمثلها ولا كفن يباع، لإخفاءِ عورتها بعد أن خلعت عباءتها القرمزية، وسرقت حناجر المكسورين في غفلة منهم، وعنوة من أنثني كل أشباه الرجال..
«موريطانيا القيصرية»، «شنقيط الشماء»، «رباط المرابطين» كل تلك العبارات التي ظلت ثرثرة التاريخ، تلوكها في الأفواه، صارت ثوما يأكله الدجال واللص والنذل بفاهها، وهي العاجزة الكسيحة..
موريتانيا بحر غادر، باع حراسه القوارب، بعد أن مزقوا أجسادها ثقوبا بنصال غدر تتكسر على نصال نذالة، واستأصلوا من رحم الماء فزاعةَ الغرق، حتى صار مخمليات ترف!!..
هذا الصباح، والشمس تغسل بأشعتها، يديها من عطن العفن، المكدس في كل اتجاه، تكدست الطريق واختنقت بالسيارات الكثيرة، في مشهد متنافر، لكن صوتاً ما، كان يصلني بوضوح، كأن الضجيج خلق ليهدأ حين تنطق..
تظهر في فراغات الورق، تمحوا الفواصل وتضع النقاط، لتصنع مئات النهايات، كل الطرق تؤدي إليك، وما روما تلك إلا كذبة تاريخية عنك، فأنت شرابي الممزوج بنبيذِ الحياة، وجنتي المعلقة فوق شماريخ اللّهفة، لي قلب يرقص طرباً بهواك، أنت السدُّ المتين الذي يقف أمام جريان سيولي، المُتدفقة نحو اللاشيء، تعيد تشكيل شريان القلب، ليصبح كل ما بداخلي منجرف نحوك، أنت الشيء الوحيد والأوحد، الثابت في حياتي والعميق حدَّ النهاية الذي لا أستطيع تجاوزه البتة..
تحضر أمامي، في حزن الوجوه، في كآبة المنظر الكابي، وأنت آخر ما تبقى من كلِ شيء، كآخر رصاصة في جعبةِ مقاتل، وآخر عود ثقاب في ليلة حالكة البرودة، وآخر أنفاس ميت يلفظ أنفاسه، فيوم ولدتُ ولدتَ قبلي، حتى تستقبلني لنحضن بعضنا في المهدِ، اثنان نحن في الحب، ولا أحد.. فأصرخ وجهك، وأنت عاشق أرض “الشاي والنعناع”، أن أهرب بخفتك من ثقل حقيقتها، أهرب بي وبك منها، وأنا متسلقة كتاف أكتافك..
هنا نواكشوط، لم يتغير أي شيء، لا زالت هي هي، عاصمة الصفيح بامتياز، بادية ترفض الحضارة بأنفة مزيفة، تغطي الحقيقة، كما غطى المخاط فيها كل الرؤوس، ولا زالت دموع المقهورين الراكدة تزين الشوارع..
وقتها الرملي، يشير خصر ساعته إلى منتهى اﻷلم، والمساء في هذا الجزء من المدينة كئيب حد الوجع، يوزع حزنه بسخاء اللصوص، علي المارة الذين استحالت وجوههم فوانيساً تحجب أصابع الليل بحرقة بؤس الحال، ووجع المقال..