انتشرت ثقافة الهجرة بين الشباب بشكل مفزع، فأصبحت الهجرة في نظرهم هي السبيل الوحيد لتحقيق أحلامهم، فيبدعون في وضع الأفكار والحيل للرحيل، ومن أغربها ما يحدث اليوم هجرة الأجنة قبل الولادة، فكم من بناتنا تحلم بأن تضع مولودها في دولة غربية ليكتسب المولود جنسيتها، كطريقة للرحيل والهجرة بعد مدة إلى العالم المتقدم، وتأمين لمستقبل طفلها، هروباً من الأوضاع المتردية في بعض بلادنا، ولا تتعجب إذا علمت أن أحفاد رؤساء مصر بعد ثورة يوليو جمال عبدالناصر والسادات ومبارك، ولدوا في دول غربية ليتمتعوا بالجنسية المزدوجة.
ولعل من دوافع الشباب للهجرة عجز بعض دولنا العربية على استيعاب أصحاب الكفاءات، الذين يجدون أنفسهم عاطلين عن العمل أو يتقاضون رواتب هزلية، لتخرج تلك الكوادر والطاقات العربية مهاجرة إلى الدول الغربية المتقدمة التي تعمل على استقطابها عّن طريق الإغراءات العلمية والمادية، حيث تحتضنهم وترعاهم وتيسر لهم سبل الحياة الهادئة والآمنة.
سوء الأوضاع الاقتصادية والمعاناة المادية والمناخ السيء للبحث العلمي جعل بلادنا بيئات طاردة للكفاءات والعقول العِلمية، بالإضافة إلى الرشوة والفساد والمحسوبية والبيروقراطية تلك الأمراض التي أصابت مجتمعاتنا، وتسببت في هجرة الطاقات العربية إلى الغرب حيث عوامل الجذب التي تقدمها المجتمعات الغربية، فيخرج الشباب العربي تاركين خلفهم معاناتهم التي قاسوها في بلادهم.
هجرة العقول والكوادر تعمق التقدم في الدول الغربية المتقدمة وتزيد الإنتاجية فيها بينما تزيد من وضعية التأخر والتخلف في الدول النامية حيث يستمر إمتصاص تلك القدرات المبدعة مما يؤثر سلباً على الأحوال الاقتصادية والاجتماعية في تلك الدول.
والعلماء العرب الذين ذاع صيتهم عالمياً بعد هجرتهم الكثير، ومنهم على سبيل الذكر العالم الكيميائي المصري الدكتور أحمد زويل رحمه الله، أستاذ الكيمياء والفيزياء في معهد كاليفورنيا للتقنية، والحائز على جائزة نوبل في الكيمياء للعام 1999، على أبحاثه في مجال الكيمياء حيث قام باختراع ميكروسكوب يقوم بتصوير أشعة الليزر في زمن مقداره فمتوثانية، ما يمكن من رؤية الجزيئات أثناء التفاعلات الكيميائية..
تخرج زويل من إحدى كليات العلوم فى مصر لكنه لم يجد من يقدر أحلامه فى العلم وطموحاته، فرحل إلى امريكا ودرس الدكتوراه واستقر هناك ليصبح بعد ذلك من أشهر علماء العالم وأول عالم عربي يحصل على جائزة نوبل، وللأسف لم تستفد مصر من علم زويل بعد نجاحه في أبحاثه كما يجب أن يكون.
في عام 600 قبل الميلاد هاجر العلماء والفلاسفة اليونانيين من بلدانهم إلى آثينا التي شهدت حركة ثقافية ضخمة ترجمت إلى تقدم وازدهار اليونان بأكملها، وعندما سيطر الإغريق على دولنا العربية أخذت الكفاءات العلمية تهاجر إلى عروس البحر الأبيض مدينة الإسكندرية حيث هدف حكام مصر في تلك الفترة على أن تكون الاسكندرية مركز حضاري للعالم بأكمله.
فِي العصر الحديث كان كبار التجار في الإسكندرية من المهاجرين اليونانيين والإيطاليين الذين جاؤوا قادمين إليها من أوروبا، لكن اليوم يقف الشباب العربي على شواطىء الإسكندرية آملين عبور البحر الأبيض المتوسط للبحث عّن فرصة للعمل أو الدراسة، فرصة لإثبات ذاتهم وقدراتهم التي قوبلت بالتجاهل في بلادهم.
فغياب الاستقرار وحقوق الإنسان والصراعات الدامية التي تشهدها بعض بلادنا جعلت الشباب يهاجرون بطرق غير شرعية متجهين لأوروبا وأمريكا أرض الأحلام، فيقع كثير من الشباب الذين أصابهم اليأس والإحباط، ضحية سماسرة الهجرة غير الشرعية الذين يقومون بتسفيرهم باستخدام سفن متهالكة وغير معده لنقل الركاب، مقابل مبالغ مالية تتراوح ما بين 100 إلى 150 ألف جنيه من كل منهم وللأسف الآلاف من الشباب يدفع حياته ثمنًا لتلك التجربة.
على الحكومات في بلادنا القضاء على المحسوبية والظلم الاجتماعي، والاهتمام بالبحث العلمي وزيادة الميزانية المخصصة له وتوفير الإمكانيات، واحترام العلم والعلماء، ورعاية الباحثين وتوفر بيئة مناسبة للإبداع، ووقف نزيف الأدمغة والسواعد الذي سلب بلادنا جزءً كبيراً من رصيدها الفكري وقدراتها البشرية، والاستفادة من هذا الرصيد المهاجر من العقول العربية لبناء نهضة علمية حقيقية تضعنا في مصاف الدول.