ساعةٌ كلثومية يومية تُبث عبرَ “روتانا كلاسيك” تُغنيك عن كلِّ شيء، تُنسيك ما لك وما عليك، من واجبات منزلية ودراسية، تنسيك كلّ شيء، تسلب روحك إلى عوالم خلقتها الست في مكانٍ ما، عوالمٌ لا يدوسها إلا العاشقون والحالمون.
لا تفرق أمُّ كلثوم عن الخيال بشيء، كلاهما نفس القوّة، إذ ينتشلا روحك من هذا العالم الكريه البغيض إلى عالمٍ أنتَ سيّده.
اليوم، تخلّفت عن الركب، لم ألحق بقطار العشّاق الذي تقوده الست مع حفنةٍ من الشعراء والملحّين العظماء، لسببٍ قاهرٍ جداً وصلتُ إلى تلك العوالم في الساعة الحادية عشر والنصف، لقد بدأ الحفل منذ نصف ساعة، وصلتُ عندما كانت تنشد: وقسوة التنهيد والوحدة والتسهيد لسّه ما همش بعيد، من “فات المعاد” لمرسي جميل عزيز والبليغ الحمدي، اعتذرتُ من الكل عن هذا التأخير القسري، فغفرت لي وسامحني الجمع لكنَّ أبا الصلعة عازف القانون عبده صالح بقي حانقاً وغاضباً منّي.
-أمّا في الرحلة الثانية عند الساعة الثالثة صباحاً، وبعدما صعدت، جلستُ بجانب فتاة اسمها “حنين” يا الله كم كانت تشبه حنيني، حنين التي أحببتُها خلال الدراسة الاعدادية، كان يجلس مقابلنا الشاعر أحمد رامي وعازف الكمان أحمد الحفناوي، كانا يتهامسان على القصبجي المقرّب من الست، المهم، ماذا ستنشد اليوم؟ سألتُ حنيناً فأجابت: يا ليلة العيد أو القلب يعشق كل جميل.
لا لا يا حنين بل “هجرتك” أجبتُها ثم قالت: عجباً الدنيا أعياد ورمضان انتهى، لا ضير من ابتهالة صوفية خفيفة.
سمعنا ذاك “الأبو الصلعة” فقال: أنا قلبي دليلي مثل هذا العبد الأسود (وأشار بسبّابته نحوي) أنّها ستغنّي هجرتك.
وبالفعل ثوانٍ قليلة ويبدأ عبده صالح بدغدغة قانونه على مقام “الكورد”.. إنّها هجرتك يا حنين! إنّها رائعة رامي والسنباطي يا حنين!
وما قصّتها معك ومن تكون حنين؟
سردتُ للست قصّتها من قبل وهي من سترويها لكِ الآن فقد انصتي!
الست تنشد “غصبت روحي على الهجران وانت هواك بيجري بدمي وفضلت افكر في النسيان لما بقى النسيان همّي” وحنين تستنتج: أحببتَ فتاة كردية جميلة من ركن الدين، وهي احبّتك، تعرّفت عليها عندما كنتَ هارباً من المدرسة الى إحدى الحدائق، لترتع وتلعب وتدخّن سجائرك الأولى، لها عينان عسليّتان تسرُّ الناظرين، بقيتَ معها بضعة أيام قبل أن تنصبَ لك فخّاً وتواعدكَ وترسل لك وحوشاً بشرية كي يضربوك، لماذا؟ حتى انت لا تعرف، التفوا حولك بحلقة دائرية، وعلى “وين بيوجعك” بالأيادي والأرجل والسكاكين، وهي كانت تنظر الى هذه المجزرة من بعيد، حتى اسعفك صديقك الى مشفى ابن النفيس، رضوض وكسر في الأنف، وجرح في يدك احتاج لسبع قطب..
تضيف الست “وقلت اراضيك وانسى جفاك وودّع قلبك القاسي” وتسرد حنين: اكتشفت بعد فترة من الهجران عن طريق مرسال المراسيل صديقتها راما أن قريباً لها قد عرف بموضوعك وهدّدها على ان تواعدك ثم يأتي لك ووحوشه العشرة، وأنّها نادمة وتريد لقاءك ووصلك والاعتذار منك فليس في يدها اي حيلة، ثم رفضتَ ذلك، كم كنت قاسياً.
الهجران الهجران لا شيء سواه قد ينسيك أذيّتها ولو عن غير قصد، فردّت عليها الست: صعبان عليا جفاك بعد اللي شفتو في حبك..
ولا قوة في الدنيا تمنحك النسيان ولا حتى الست والخيال الجبابرة، كنتَ قوياً حين تحمّلت عناء هذا القرار..
-وبعدما انتهت الست من الغناء، وختمت وصلتها ب(ما دام بهجر عشان انساك وفضّي من الهوى كاسي لقيت روحي في عز جفاك بفكر فيك وانا ناسي” قالت حنين قبل أن تختفي فجأة: رغمَ الهجران والبعد، رغم توهّم النسيان، مازلتَ تحبُّ حنيناً، وهي أيضاً ما زالت تعشقك، هكذا تخبرني أم كلثوم، وعرفتُ أيضاً أن الست تحبّك كثيراً، هنيئاً لك!
هل فعلاً تكون هذه حنين نفسها التي أحببت؟