عندما كان سقراط الحكيم، الفيلسوف اليوناني الأشهر، يجوب شوارع أثينا، مستوقفاً المارة ليحدثهم، لم يكن يملي عليهم آخر ما توصلت إليه تأملاته الفكرية من حكمة، بل كان يناقشهم ويحاورهم في شؤون حياتهم اليومية ويسألهم عن آرائهم في أحوال أثينا، كمن يبحث بسؤاله عن إجابة لا يعرفها..
فلم تكن حواراته المطولة مقتصرة فقط على طلابه من مريدي المعرفة الفلسفية، بل كانت تمثل منهجه المعتمد في تدريس العامة وتوجيههم وحثهم على التفكير وإعمال العقل للوصول للحقائق والمعارف التي يحتاجونها بأنفسهم، كيف لا وهو القائل أيها الإنسان (اعرف نفسك).
كثيرون هم الذين مروا بهذه العبارة مرور الكرام ربما دون أن يعرفوا حتى من هو قائلها. قليلون من بحثوا عن معنى لها، إذ لم يستطيعوا أن يتخيلوا كيف من الممكن ألا يعرف الإنسان نفسه ليحتاج إلى أن يدله سقراط أو غيره من البشر على ضرورة أن يفعل ذلك، حتى إن بعضهم قاده ذلك إلى التشكيك بمدى منطقية العبارة وواقعيتها واعتبرها بعض كلام الفلاسفة الغامض الذي يصاغ بكثير من التلاعب بالألفاظ والمبالغة في ذلك للاستخفاف بعقول العامة والتنظير لهم من عَل لإقناعهم بجهلهم وبحتمية حاجتهم لفيلسوف يأخذ بيدهم ويرشدهم.
نادرون هم أولئك الذين نقبوا في ما وراء الكلمات وغاصوا في عمق المعنى بحثًا عما يفسر لهم ويدلهم على كيفية معرفة أنفسهم فقط لأنهم أدركوا حاجتهم لذلك.
اطرح على نفسك السؤال التالي: من أنا؟ وستدهش كيف أنك لن تستطيع الإجابة فورًا على سؤال قصير من كلمتين وأنك ستفكر مطولًا، وستتوقف كثيرًا عند كل كلمة تحاول استخدامها للإجابة
لماذا علينا أن نعرف أنفسنا؟
وكيف لنا أن نعرفها إذا أردنا ذلك؟ هل دلنا الفلاسفة والحكماء على طريقة محددة لمعرفة النفس؟ أم أن كلًا منهم اختبر طريقته الخاصة في المعرفة مزاجها عقله وفكره ومنطقه وطبعه وإرادته واستطاعته وما وراء ذلك من مبتغى يحثه ويدفعه، فكانت فردية التجربة دليلًا على أن خوضها ضرورة فقط لمن يريد ويحتاج ويصل به عقله إليها.
ربما تكون الإجابة الأبسط عن السؤال المطروح سابقًا، لماذا علينا أن نعرف أنفسنا؟ هي:
علينا أن نعرفها لنكُنها، إذ ليس باستطاعة الإنسان أن يكون شيئًا يجهله. إذًا هذا ما أراده سقراط من عبارته اعرف نفسك، فأشار إليه تلميحًا لا تصريحًا تاركًا باب الاجتهاد والتفكير مفتوحًا لمن أراد الدخول والتجربة.
لكن.. ما هي النفس؟
النفس إشارة للإنسان. وما الإنسان؟ الإنسان مِزاجُ خمس: جسد، ونفس، وعقل، وقلب، وروح. أدنى ما فيه الجسد وأشرف ما فيه الروح. ولما كان الجسد ليس إلا كينونة مادية تحتوي نفس الإنسان، كان لا يشار للإنسان بجسده، بل يشار إليه بنفسه التي هي كينونته الحقيقية أو ما يحتوي كينونته الحقيقية، وهي: العقل، والقلب، والروح، وكل ما يتصل بها من طبائع ورغبات ومشاعر وانفعالات وفكر وأسلوب حياة.
- جبل التروبيك.. الحلقة المفقودة في أزمة الرباط ومدريد
- الذات بلا مغالاة
- فاجعة طنجة.. “من سيُضمد في آخر الصيد جرح الغزال”؟
- ضِفافُ العاطفة على بحار العقول – عندما سألت العرَّافة جبران خليل جبران
- غليانُ الشُّعُور عبر النظرة الفكرية العالمية
لتكون نفسك عليك أن تعرفها ولتعرفها عليك ألا تصدق أنك تعرفها فأكثر الناس ذكاء كما قال سقراط هو: من يعرف أنه لا يعرف، لذلك ابدأ بالبحث والتنقيب والتأمل والتفكير المطول، وسرعان ما ستكتشف مقدار جهلك بنفسك، وأنك لم تكن أنت مطلقًا في أي وقت من زمان مضى.
فقط اطرح على نفسك السؤال التالي: من أنا؟ وستدهش كيف أنك لن تستطيع الإجابة فورًا عن سؤال قصير من كلمتين وأنك ستفكر مطولًا، وستتوقف كثيرًا عند كل كلمة تحاول استخدامها للإجابة، وسترى كيف أنك ستعدل وتستبدل الكثير من الكلمات قبل أن تشطبها جميعها وتنظر إلى بياض ورقة الفكر حائرًا لا تسعفك الكلمة ولا يهديك الخيال.
إن سقراط الحكيم الذي عرف نفسه أراد أن يقول: هذه النفس لك.. كُنها. لذلك تكلم بالحكمة وعلمها دون أن يكتبها، لإيمانه أن عقول الناس لا أوراق الكتب هي الوعاء الحقيقي الحافظ لها من الاندثار والزوال..
سقراط الذي عرف نفسه كان نفسه حقًا عندما رفض المساومة على حقه كفيلسوف في نقل معرفته وتمريرها للناس، رافضًا التنكر لهم بحرمانهم من حقهم في الاطلاع عليها والاستفادة منها، الأمر الذي دفعه إلى تجرع السم بنفسه بعد محاكمته وإدانته بتهمة إفساد الناشئة، مفضلًا الموت على التنصل من مسئوليته تجاه الناس بالهروب أو طلب العفو..
كانت هذه بداية الرحلة وهذا ما استطعت أن أتوصل إليه لأكتبه بعد عدة أشهر من طرح السؤال السابق على نفسي: من أنا؟ لأعرف ما الذي قادني إلى السؤال وما الذي سيقودني إليه السؤال. أما التتمة والإجابة فلربما استطعت تدوينها بعد جولة أخرى من التفكير أحسبها لن تطول وإن طالت أحسبها لن تبور.
3 تعليقات