لا يسعنا سوى أن نصفق بكل حرارة لحكام الأمس واليوم، بكل صراحة لعبة متميزة ومحبوكة بإتقان شديد، سأحاول صياغة أمثلة كثيرة من دولنا العربية بعد الربيع العربي، وكيف استطاعت بكل مكر ودهاء أن تعود من جديد.
كيف سلَّم حسني مبارك نفسه لضباط الصف الثاني من الدولة العميقة بكل ثقة دونما خوف؛ لأن ما يجمع بينهم لا علاقة له بالأيديولوجيا ولا التاريخ ولا الجغرافيا، بل هي وحدة المصير والمصالح.
كيف فر زين العابدين في وجه الثورة الطائشة في حينها، لكن كيف ثبت النظام في وجه العاصفة، وعاد من جديد ليمسك بزمام الحكم. كيف رتب المخزن المغربي أوراقه في وجه حركة 20 فبراير/شباط، وبسرعة فاوض وناقش الجميع لتمر العاصفة الشعبية.
كيف استطاعت هذه الأنظمة التليدة القديمة المتجذرة في دولنا العربية أن تأخذ الشعب على حجرها وتحتويه، وتجعل ثورته مستأنسة، ولم تتناطح مع أفكار هذه الشعوب بغباوة، بل سارت كلها مع التيار، فمن أراد إسقاط النظام وبين من أراد إسقاط الاستبداد، هكذا حبكت اللعبة في دولنا العربية بكل دقة، الكل يعرف مكانه وآلته الإيقاعية وحتى معزوفته، ووارد أيضاً أن يكون هناك متحكم بالخيوط كلها في منطقتنا العربية.
ولا يسعنا سوى أن نقول لهذا المايسترو واللاعب الأكبر: “برافو”، فقد استطاع بكل حنكة أن يدير مجتمعاً من المصلحين حتى تنفذ خطته بكل دقة وسلاسة.
ما يقع في دولنا العربية شبيه إلى حد كبير بما نشاهده في الأفلام EAGLE EYE من تطور الذكاء الصناعي، حتى تصبح قادرة على برمجة نفسها، وتصليح نفسها بنفسها دون حاجة منك، هو نفس الدور تلعبه الشركات المتعددة الجنسيات العابرة الحدود، فهي التي تضع القوانين، ومن أجلها تباد البلاد والعباد.
ما أنجح الثورة الجنوب إفريقية ليست حركة رمح الأمة بزعامة الماركسي نيلسون مانديلا بالأساس، لكن هو صمته على السياسة الرأسمالية والاحتكارية المتوحشة بجنوب إفريقيا، وهي نفس الحالة مع تركيا أردوغان.
إذاً قبل الحديث عن أي ثورة وانكشاح لنظام ما، وجب على منظريها وضع أسسها حجراً حجراً، وحساب سرعة رياح التغيير والمعيقات الطبيعية والبشرية والاقتصادية. مشكلة يساريي وحداثيي الدول العربية أنهم جاءوا بفكر جديد يختلف مليوناً في المائة عن فكرهم الحداثي والعلماني، الداعي إلى التعايش ونبذ العنف، ولكل منا معتقده، لكن هذا مجرد شعار فضفاض، ما إن تصدم بهم أو يمسكوا بالحكم حتى يصبحوا أكثر تطرفاً من داعش نفسها، يريدون إقامة نظام حداثي علماني ورفض الإسلاميين في بلد يشهد له التاريخ والجغرافيا وحتى الديموغرافيا للإسلاميين.
مشكلة الإسلاميين أيضاً هي تحديد آلية التنافس على السلطة، فما وصلنا سوى آليتين هما “اجتماع أهل الحل والعقد” و”الملك الجبري”، ويحتاجان مراجعات كثيرة جداً…
فمثلاً كيف سنختار أهل الحل والعقد، بل من سيختارهم، أو من سيفصل بينهم إذا اختلفوا، ومن سيحدد لهم قواعد الشورى؟! لو كانت إجابات هذه الأسئلة سهلة ما أريقت دماء الصحابة قبل 1400 سنة/ والملك الجبري.. كيف سيجبر؟ بالسلاح؟ سيأتي به من أين؟ ومن سيأتي له به؟
عيوب الآليتين أنها لا فرق بينها وبين الاقتراع المباشر؛ لأنه يسهل لأي أحد من الخارج التحكم فيه. وما قام به صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مختلفاً جداً، ففي كل مرة كان يتم الاستخلاف، من أول ما ترك الأمر شورى بينهم فاختاروا أبا بكر، وبعدها مشاورة الصديق بعض الصحابة في استخلاف عمر، وبعدها الفاروق حدد ستة مرشحين يتم بينهم نظام انتخابي صارم، وبعدها علي -كرم الله وجهه- بويع لمن بقي من الصحابة في المدينة بعد مقتل عثمان. الموضوع يحتاج عملاً فقهياً وشرعياً وسياسياً لتحديد آلية التنافس والتداول على السلطة في الإسلام، هذا ما لم تقدمه الحركات الإسلامية منذ الخلافة الراشدة إلى الآن.
مشكلتنا كشعوب عربية، نريد نصراً وثورة اقتصادية واجتماعية وسياسية دون أن نخرج للشارع، دون أن ندفع ثمنها، دون أن نقدم الغالي والنفيس من أجلها، مشكلتنا كشعوب عربية غارقة في البؤس والتمسح بين الماضي التليد للعرب والمسلمين، وبين المظلومية والبكائية للتفوق الغربي.