لطالما افتخر بعضهم في العالم العربي بأن التركيبة السكانية الفتية تشير إلى أن المستقبل العربي سيكون أفضل من الحاضر.
ففي وقتٍ تعاني المجتمعات الغربية من الشيخوخة، لأن الهرم السكاني لها يكاد يصبح مقلوباً، أو أنه سيصبح كذلك في العقود القليلة المقبلة، وبحساب الزمن، فإن المستقبل حتماً سيكون لصالح المجتمعات الفتية. وعلى هذه الخلفية، يصرّ بعضهم في العالم العربي على أن الدعوة إلى تحديد النسل لمعالجة الانفجار السكاني الذي تعاني منه الدول العربية، خصوصاً الكبيرة والفقيرة، ما هو سوى وصفة غربية تعبر عن مؤامرة غربية مضمرة، غرضها ضرب هذه المجتمعات في الموقع الذي يبني مستقبلها. بذلك هي تسعى إلى إضعاف العالم العربي في أهم مميزاته، التركيب الفتي للهرم السكاني لهذه المجتمعات.
وهم يعتقدون أن هذه الزيادة السكانية، إذا ما تم استثمارها بالشكل الصحيح، أصبحت مصدراً لتحقيق الغنى والرفاه والقوة، وهو ما يخيف العالم الغربي ذا التركيبة السكانية الهرمة. وبناء على هذه النظرة، الربط بين الانفجار السكاني والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ما هو سوى ربط تآمري، له أغراض سياسية، يسعى الغرب من خلالها إلى إضعاف الدول العربية.
والسؤال في هذا السياق، هل هذه الميزة صحيحة، وهل هناك مؤامرة تستهدف النمو السكاني في المنطقة العربية خصوصاً، وفي العالم الثالث عامة؟ يقدر عدد سكان الوطن العربي في العام 2017، حسب صندوق الأمم المتحدة للسكان، بحوالى 359 مليوناً. ونسبة الأطفال تحت سن 15 عاماً تصل في غالبية الدول العربية إلى حوالى 40% من مجموع السكان. وحسب البنك الدولي، سيصل عدد السكان إلى 481 مليوناً في العام 2030. وبنسبة نمو سكاني 2.3%، وهي من أعلى المعدلات في العالم.
بالعودة إلى العام 1950، فإن عدد سكان المنطقة كان يقدر بـ 75 مليوناً في ذلك العام. وارتفع في مطلع الستينيات إلى 90 مليوناً، وفي بداية السبعينيات إلى حوالى 120 مليوناً. والسبعينيات هي الفترة التي شهدت أكبر زيادة سكانية في المنطقة بنسب غير مسبوقة، حيث وصلت إلى 4%.
“أكثر الدول العربية تعاني من ديون مرتفعة، ومن بطالة مرتفعة، ومن إعالة اجتماعية مرتفعة.”
بمقارنة الأرقام خلال الفترتين، نجد أن عدد السكان في الوطن العربي قد تضاعف أكثر من أربع مرات خلال ستين عاماً. وقد بلغ عدد الذين يعيشون تحت خط الفقر اليوم أكثر من مائة مليون، وهو ما يعادل عدد سكان المنطقة في مطلع الستينيات.
أما الأداء الاقتصادي العربي في التسعينيات فهو منخفض جداً، ففي النصف الثاني من الثمانينيات، كان نمو الناتج القومي بحدود 2% فقط، وانخفض بين عامي 1990 و1992 إلى 0,2%، وعاد ليرتفع في 1994 إلى 2,4%، ولم يتجاوز في النصف الثاني من التسعينيات أكثر من 3%، وبلغ أقل من 2% في العام 2015.
على الرغم من أن التزايد السكاني ليس السبب الوحيد لإخفاق التنمية الاقتصادية ـ الاجتماعية في المنطقة، إلا أنه ولّد ضغوطاً كبيرة على التنمية في الدول العربية الفقيرة، والتي تحولت الأوضاع فيها إلى مجاعاتٍ عندما تضامنت مع ظروف أخرى، كما حصل في السودان والصومال وغيرهما.
ولا تضغط الزيادة السكانية على التنمية القريبة فقط كما يعتقد بعضهم، وإنما تضغط بقوة على التنمية البعيدة أيضاً، وهو التأثير الأخطر على مستقبل هذه المجتمعات. ففي عالم اليوم الذي يعتمد، أساساً، على التنمية البشرية التي تعني توظيفات كبيرة للوصول إلى متطلبات الكفاءة المطلوبة في معادلة المستقبل، فإن أي بلد يتجاوز معدل النمو السكاني فيه أكثر من 3% سيواجه مشكلات اقتصادية، أقلها التراجع المستمر في معدلات دخل الفرد كقاعدة اقتصادية، كما يقول خبراء الاقتصاد، وهو ما يعني إفشال أية تنمية اقتصادية.
وهذا ما يفسر جانباً من تراجع الدخل المتسارع في أغلب الدول العربية منذ نهاية السبعينيات، وصولاً إلى تعميم واسع للفقر مع مطلع الألفية الجديدة.
وحسب تعبير الاقتصاديين، فإن السباقات الاقتصادية ليست لعدّائي المسافات القصيرة، فهي تتطلب عدائي المسافات الطويلة. فمن المستحيل أن يصبح بلدٌ ما غنياً في سياق نمو سكاني سريع، والأسباب واضحة ومعروفة. ذلك أن جعل المواليد الجديدة قادرة على الإنتاج، مع وصولها إلى سن الإنتاج، بات يتطلب توظيفاتٍ واستثماراتٍ كبيرة.
فإذا كانت هناك أعداد ضخمة من القادمين الجدد إلى المجتمع، فإن الأشخاص الموجودين ينبغي أن تكون لديهم القدرة والاستعداد لتقييد استهلاكهم بشدة، بغية استثمار الأموال التي تلزم لهؤلاء الجدد، وهذا ما لا تستطيع تحمّله دولة غنية، كالولايات المتحدة الأميركية، وفق حسابات الاقتصادي الأميركي، لستر ثاور، فكيف الحال بالنسبة للدول الفقيرة؟
بعملية ضرب بسيطة، يتبين أنه إذا كانت الولايات المتحدة تريد معدل زيادة مقداره 4%، فسيكون عليها أن تخصص لهؤلاء الأميركيين الجدد أكثر من 40% من ناتجها القومي الإجمالي بأسره. كما سيكون على الأميركيين الحاليين إجراء تخفيض حاد في مستوى معيشتهم، إذا أُريد أن تُسنح للأميركيين الجدد الفرصة بأن يصبحوا أميركيين متوسطين.
“لا تضغط الزيادة السكانية على التنمية القريبة فقط كما يعتقد بعضهم، وإنما تضغط بقوة على التنمية البعيدة أيضاً.”
تختلف الاستثمارات المطلقة الضرورية لتوفير مستوى المعيشة الحالي للمواطنين الجدد من بلد إلى آخر، ولكن الشرائح من الناتج القومي الإجمالي التي ينبغي أن تكرس لهذا الجهد لا تختلف. وفي العالم العربي، لا توجد الأموال اللازمة لدعم جهدٍ من هذا القبيل، وبصرف النظر عن الاستعداد أو الرغبة. ذلك أن تخفيضاً مقداره 40% من الاستهلاك الجاري سيترك كلاً من المواطنين الجدد والقدامى تحت خط المجاعة، إذ أنه لا يترك أية موارد يمكن تخصيصها لتحسين مستقبلهم الجماعي.
في ظل المعطيات القائمة، فإن مستقبل الدول العربية لا يبشر بالخير، زيادة سكانية مرتفعة، الناتج القومي منخفضٌ في إجمالي الدول العربية، ولا يقترب من النمو السكاني، وأكثر الدول العربية تعاني من ديونٍ مرتفعة، ومن بطالةٍ مرتفعةٍ، ومن إعالةٍ اجتماعيةٍ مرتفعة، ومن تراجع في معدلات دخل الفرد.. إلخ. وزاد على ذلك وحشية الأنظمة التي شهدت بلدانها ثوراتٍ على حكامها، والتي شهدت عمليات تدميرٍ واسعةٍ ما زاد الطين بلة. ولا مبالغة في القول إن مستقبل المنطقة والأجيال القادمة بات في مهب الريح.