من أكثر ما تفيض به مخزونات الثقافة العربية هي الأمثال، والمثل عادةً ما نجده عابراً للزمان والمكان، فيمكن أن ينطبق على كثير من الحالات في عصور مختلفة وفي أماكن ومواطن متنوعة، ولعلّي أجد نفسي دوماً أقف عند المثل العربي المعروف: (باب النجار مخلوع)، كنت أسأل نفسي:
كيف لهذا المثل أن يكون واقعياً؟ هل من المعقول أن نجاراً لا يستطيع أن يصلح باب بيته؟
إن أخذنا المثل بحرفيته فإننا نكون قد ظلمنا واضعيه وقد شطحنا بعيداً عن المقصد الحقيقي له، ولكن يجب أن نُسقط المثل على كثير من المواقف التي تمرّ بنا سنجد أنه أشبه بقاعدة ثابتة ومثبتة بلا أدنى شك.
عندما تكون الأب الروحي لكل من حولك، تساندهم بكل ما تملك ولو لم تملك إلا الكلمة الطيبة لن تبخل عليهم بها، وتكون حريصاً على إدخال السرور إلى قلوبهم كلما عكّرتها الهموم، وأحياناً تدخل إلى قلوبهم لتوقد فيها شعلة الأمل، وتبدد ظلام اليأس من نفوسهم لتثبت لهم أنّك نجارٌ ماهر، لست نجاراً للخشب إنما نجار للأرواح والنفوس فإنك تجمّلها وتزيّنها لتبدو بأبهى حللها، تكلّف نفسك أشق عناء لترى ابتسامة على وجوه الناس حولك.
فإن أصابك سوء أو ضاقت بك روحك لم تجد من يزينها ويجملها، ولم تجد من يعيد بث الحياة في نفسك، وبنفس الوقت لا تجدّ في نفسك القدرة على خطاب روحك بذات الخطاب الإيجابي الذي كنت تخاطب به أرواح الناس.
إذاً في هذه الحالة انخلع باب النجار ولم يجد من يصلحه، ولم يقوى على إصلاحه أيضاً..
عندما تبحث للناس عن عملٍ وتساعدهم وترشدهم، وتركض بيديك قبل رجليك لمؤازرتهم، وتضيع الساعات منتظراً أن تتيسر أمورهم، تلك الفرحة التي تغمرك عندما يلتحق أحدهم بعملٍ أنت من دلّه عليه لا توازيها فرحة لولا أن تتقطّع بكَ السّبل يوماً فلا تجد من يدلّك على عمل تحفظ به نفسك، وربما أسعفك البعض بدعاء باردٍ أو نظرة شفقة.
عندما تسقي الجميع الماء قبل أن تشربه، فإن جاء دورك كسروا الكأس وتركوك عطشاناً ظمآناً، فكل من يشرب يفكر بإرواء عطشه لا أكثر ولا يكترث بك ولا ينتبه أنك أنت من حمل الكأس له وأوصل الماء إلى ثغره.
قد لا يكون الأمر عاماً شاملاً لكنها حقيقة كالشمس لا تُغطى بغربال، فمن اعتاد على إصلاح العيوب وردم الحفر، ومد الجسور بين أي ضفتين منقطعتين، سيصاب بالصدمة الكبرى حينما يقف على جانب ضفته يتحرّق بشوق إلى الضفة الأخرى ولا تجد جسراً يصلك إلى مبتغاك.
ربما يوجد خطأ واحد في نفوسنا.. أنّنا نسند أنفسنا بالبشر، وهذه قمة قمم الأخطاء التي نعيشها، فيجب أن نعوّد نفوسنا أن تستند إلى بعضها البعض دون حاجة للغير، ويجب أن ندرّب أرواحنا على النهوض بعد أي سقوط وألا تنتظر يداً تمتدّ إليها، لأن هذا الانتظار لن يجلب لنا إلا الخذلان.
تعلمتُ أن أعيش حياتي بمعزل عن أي مساعدة، قريباً من روحي ونفسي بعيداً عن الجميع، فلا أتكئ إلا على روحي ولا أستند إلا لروحي وتعلّمت أيضاً أن أبني هذه الروح فتغدو صلبة متينة، لأجدها سنداً وعوناً عند الحاجة.