قصة قصيرة من تأليف: همايون أحمد وتعريب: محمد شمس الحق صديق
نبذة عن همايون أحمد
همايون أحمد (13 نوفمبر 1948 – 19 يوليو 2012) هو روائي وكاتب مسرحي وكاتب سيناريو وصانع أفلام وكاتب أغاني وباحث ومحاضر من بنغلاديش.
كانت انطلاقة همايون أحمد مع روايته الأولى In Blissful Hell التي نُشرت في عام 1972.
كتب همايون أحمد أكثر من 200 كتاب خيالي وغير خيالي، كان العديد منها من أكثر الكتب مبيعًا في بنغلاديش.
كانت كتبه من أكثر الكتب مبيعًا في معرض إكوشي للكتاب خلال التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
حصل همايون أحمد على جائزة أكاديمية البنغالية الأدبية عام 1981 وجائزة إكوشي باداك عام 1994 لمساهمته في الأدب البنغالي.
المرأة العجوز قصة قصيرة مترجمة للروائي همايون أحمد
صوت كو كو بو بو في منتصف الليل.
رقدت للتو، وأوشكت العين أن تركن إلى النوم، نهضت وقعدت جراء صوت غريب. ما الخطب؟
جئت إلى أمريكا حديثاً، وما ألفت بعد ما عليه القوم من التصرفات، فأقابل الصدمة والدهشة من وقت لآخر.
المكان الذي أتواجد به الآن يقال له رومينغ هاوس (Rooming house)، بيت صغير كمرقد الحمامة. فيه كنبة تحول إلى سرير، وطاولة للقراءة في أحد أطرافها إذاعة على موجة FM. هذا ما يوجد في بيتي من الأثاث.
الإيجار خمسون دولاراً، ضحل كقيمة الماء.
زوجان أمريكيان أجرا جميع غرف الطابق العلوي لمنزلهما، فيسكنها الطلاب الأجانب الفقراء بحمام واحد مشترك. أما المطبخ فمنعدم، والأكل خارج البيت، والتدخين ممنوع. ففقد أخبرتنا بهذا صاحبة الدار بلهجة شديدة صارمة.
ومحظور أيضا الاستماع إلى الراديو مع صوت مرتفع. قيود على اختلاف الأنواع والأشكال.
ورغم ذلك نزلت هذا البيت بسبب رخص الإيجار، وقرب المكان من الجامعة، فهي على بعد المشي على الأقدام. فأنت لا تستطيع المجيء من بعيد لحضور الدروس في البرد القارص لديكوتا الشمالية.
أما شراء سيارة خاصة فحلم بعيد. أتناول الغداء في الظهيرة في مطعم الاتحاد التذكاري للجامعة، وأما العشاء فعبارة عن شطيرة لحم أصحبها إلى البيت لدى عودتي من الجامعة مساءً لآكلها وأقضي الليل.
نزلت في رومينغ هاوس منذ ما يقارب نصف شهر، ولم أتعرف على أحد كثيرا. ففي الغرفة المجاورة يقيم طالب هندي يدعى أوننتا ناغ، كلما رآني صرخ “يا صديق” ثم دخل غرفته. هذا أقصى ما بيني وبينه من الكلام.
وفي غرفة الزاوية يسكن طالب كوري “هان”. بضاعته في الإنجليزية مزجاة، وقد جاءني يوما وقال Head pain, murder (ألم الرأس، القتل) ويقصد: أن في رأسه ألما قاتلا، فمن المستبعد أن تنشأ بيني وبينه علاقة جراء عامل اللغة.
أما في الغرفة المواجهة لغرفتي فتسكن فتاة فلبينية تدعى طاها. تناهز من العمر 23 أو 24 عاما. هي في قمة الجمال. غير أن تصرفاتها غريبة، فهي لا تتكلم مع أحد، وغالباً ما تبكي متنهدة أثناء الليل العميق.
والنازل الخامس عجوز أمريكية اسمها إليزابيث. وقد تم تحذيري منها منذ الوهلة الأولى – لابد أن أبقى بعيدا عن العجائز مثلها بمئات الأقدام. فلا مكان في المجتمع الأمريكي لهؤلاء، فهم وحيدون منعزلون.
وهذا هو السبب في أنهم إذا وجدوا أحدا كدروا عليه حياته من أجل الكلام. كان أوننتا ناغ قال لي – لا تهتم بهذه العجوز. فلو ركنت إلى اهتمامها قليلا لاندحرتَ. فهي ستركب على عاتقك تماما كعفريت سندباد، ولن تقدر بعده من إنزالها أبدا.
لم أذهب إلى غرفتها إلى الآن، ولم أشعر برغبة الذهاب إليها.
في منتصف الليل كنت ساهراً جالسا على السرير، أسمع صوت كو كو الغريب. ساء مزاجي إلى آخر الحدود، ففي صباح اليوم التالي امتحان نصفي، فأنا بحاجة إلى نوم هادئ جميل.
ما هذا الازعاج؟ خرجت من الغرفة بحثا عن مصدر الصوت. التقيت بأوننتا ناغ، وهو الآخر من خرج بوجه مقطب. قلت: ما هو هذا الصوت؟
“مزمار القربة” قال أوننتا بصوت جاف.
“ماهو مزماز القربة؟”
“آلة موسيقية. يعزفها الأيرلنديون. تحتاج إلى كثير من قوة الرئة.”
“من العازف؟”
“إليزابيث. أمر مزعج حقاً. لو ذهبت إليها وقلت نحن في منتصف الليل، وليس لها أدنى حق في إزعاجنا في عمق الليل”.
تقدمت نحو بيت إليزابيث، وكان الباب مفتوحا على مصراعيه، أما هي فجالسة مع مزمارها رافعة رجليها على السرير. هذه الآلة الموسيقية من المفروض أنها تتطلب قوة شديدة تُسعف بها الرئة، ولست أدري أنى لهذه العجوز البالغة من عمرها ثمانين عاما مثل هذه القوة.
ما إن رأتني حتى نهضت إلي بوجه باسم – أحمد، مرحبا بك.
ليس من اللائق أن أبدو قليل الأدب في بادئ الأمر. فسألت، كيف حالك؟
“جيد. جيد جدا. لقد اشتريت مزمار القربة من مبيعات المرآب. جديد تماماً. ما تردد في إعطائي بعشرين دولارا، أليس جميلاً؟”
“بلى، إنه رائع.”
كانت لدي رغبة من زمان في أن أتعلم عزف آلة موسيقية. لذلك…
“عزف مزمار القربة صعب للغاية. سمعت أنه يحتاج إلى قوة شديدة في الرئة.”
“نعم، يحتاج. تكون الصعوبة في البداية عندما تريد ملؤه بالهواء، وبمجرد أن ملأته مرة يكون الأمر سهلاً إلى حد ما. اجلس—لم أنت واقف حتى الآن؟”
” سآتي وأجلس في يوم آخر. غدا لدي امتحان. الامتحان النصفي. أحتاج إلى النوم.”
“أكيد. وهل شوشت على نومك بمزماري؟”
“بعض الشيء.”
“آسفة. آسفة جداً. لن أعزف مرة أخرى. نم بكل اطمئنان. دقيقة فقط، دعني أصنع لك كوكا ساخنة. ليس هناك دواء أفضل للنوم من الكوكا الساخنة.”
“شكرا لك، لا أظن أنني أشعر بالرغبة في شرب الكوكا الساخنة.”
” لا تقل لا. اسمع كلامي، وجرب. ستنام كالميت. بعد وفاة زوجي أخذني مرض الأرق، أسهر طوال الليل، ولا أرى للنوم أثرا. وحينه اكتشفت هذا الدواء.”
لاحظت أن العجوز بينما هي تتحدث معي قد سخنت الماء فعلاً بلفائف التدفئة. الكوكا جاهزة.
اضطررت لشربها، واضطررت كذلك لسماع قصتها. لها أربع أولاد، كل واحد منهم في مكان، وقد مر عشر سنين دون أن ترى أيا ًمنهم. نعم هناك تواصل معهم، فهم يبعثون بالخطابات، ويرسلون الصور.
“هل تريد أن ترى صور أحفادي، يا أحمد؟”
“ليس اليوم، سأرى في يوم آخر.”
“طيب، نترك اليوم. نم مريحاً، فقد شربت الكوكا الساخنة – ستنام هانئاً، وستقضي الليل في نومة واحدة.”
لم أصادف حتى قطرة من النوم في تلك الليلة، ولعل السبب كان شرب الكوكا الساخنة. أمضيت الليل كله متقلبا ذات اليمين وذات الشمال.
وفي الصباح، بينما كنت ماشياً إلى الحمام، قابلت إليزابيث، فسألتني بوجه مستبشر: قل لي كيف كان النوم؟ كبحت الانزعاج وقلت، نعم كان جيداً.
قالت العجوز بصوت بهيج، ألم أقل لك إنك ستنام هانئا. أرأيت، كم كان كلامي صائبا.
أخذت عجوز رومينغ هاوس تزعجنا كثيراً.
علمنا أنها تتعلم العزف على المزماز عن طريق المراسلة. نعم، تعلم الإنجيل عن طريق المراسلة شيء معروف، ولكن ما كنت أعرف أن العزف أيضا مما يمكن تعلمه بهذه الطريقة. كل شيء ممكن في هذا البلد العجيب.
بعد كل بضعة أيام أصبحنا نسمع صوت كو كو بو بو في منتصف الليل.
خرج أوننتا ناغ يوما صارخا متضجرا.
– “أنت تتعلمين العزف لابأس، ولكن لماذا في منتصف الليل؟ لم لا تتعلمينه وقت النهار؟ فلا أحد منا يبقى هنا نهاراً فالبيت يبقى فارغاً. “
– “لدى أعمال كثيرة في النهار.”
– “أستغرب أن لديك أعمال كثيرة، فأنت تقضين الوقت بالتطواف والتجوال.”
– “هذا هو عملي.”
– “طيب، عندما تعزفين تلك الآلة ألا يمكنك أن تصدي الباب؟”
– “عزف هذه الآلة يطلب مكاناً مفتوحاً، تجده مكتوبا في ورقة التعليمات، يمكنك أن تقرأها وتتأكد من المعلومة إذا لم تصدق.”
– “سنشتكي ضدك عند صاحب المنزل.”
– “إذا أردت أن تفعل فافعل، ولكن لن تجني فائدة، فعقد الإيجار لا يشير إلى أنني لا أستطيع العزف على مزمار القربة.”
– “أنتِ حيوان سافل.”
’العياذ بالله، لا تقل مثل هذا، طيب اذهب، لن أعزف مرة أخرى.‘
’العزف كان متوقفاً لعدة أيام حقاً، ولكنه عاد من جديد. تشابكت أسناني من شدة الغضب، ووجه العجوز باسم مستبشر على الدوام، كلما قابلتها لابد أن أسمع منها كماً هائلاً من الكلام.
“طلعت أسنان حفيدتي “إيني”، وأرسلوا لها صورة، أترغب في رؤيتها؟ ما أجملها، وكأنها ملك كريم. فأنا أعتقد أن الأرض يخلو من مثلها، سأذهب لرؤيتها في الصيف القادم، وقد أرسلت خطاباً إلى ابني ليبعث لي بتذكرة، وإذا لم يفعل لا أستطيع الذهاب، وقد كتب لي بأنه سيفعل.”
لم يرسل الابن التذكرة، فلم تتمكن العجوز من الذهاب.
إنها واحدة من العجائز البائسات اللاتي لا يحصون عدا في أمريكا، وهؤلاء يبقين فقط على رمق الحياة بما يحصلن من الدعم القادم من الضمان الاجتماعي، فبعد تسديد قيمة الإيجار، وإنفاق مصاريف الأكل والشرب، والوفاء بأقساط الضمان الصحي، لا يبقى لديها شيء.
أضف إليه أن لديها هوس إقامة حفلات الاستقبال. فهي تشتري بعضا من النبيذ الرخيص وتنظم حفلة في أحيان كثيرة. ذات يوم بعد أن عدت من الجامعة رأيت إعلانا يتدلى على الباب، كتبت فيه بحروف لولبية:
“صديقي العزيز،
اليوم يوم خاص في حياتي، يوم اللقاء الأول مع زوجي بوب، في هذا اليوم تناولنا الغداء معاً، وقال لي بوب: أنا أحبك. ولكي أبقي هذا اليوم الخاص حيا خالدا في الذاكرة نظمت حفلة صغيرة، والترتيبات تخص الأصدقاء المقربين ليس إلا، فالرجاء منك الحضور.“
لا أجد في نفسي رغبة في الذهاب إلى الحفلة، ولكن لا يوجد ثمة أي مفر من الذهاب إليها، حيث سيتكرر مجيئها بعد كل عشر دقائق لتقول، أما حان لك وقت المجيء، لقد جاء الجميع وينتظرونك. بينما أرى بعد الذهاب أنني أنا الوحيد الذي حضر، ولم يأت أيٌّ آخر إلى هذه اللحظة. فالعجوز تذهب إلى الجميع وتكرر نفس الكلام.
تضيء شمعة في البيت، وعلى الطاولة بعض رقائق البطاطس، والفول السوداني، واللوز وقارورتان من النبيذ الأحمر لا تتجاوز قيمتهما ستة أو سبعة دولارات.
تذرع العجوز المكان جيئةً وذهاباً بوجه مبتسم بشوش، وقد وضعت في شفتيها لوناً أحمر غامقاً، فإذا رأيتها حسبت أن سعادتها لا تعرف أي حدود، وإذا أعددت المشاركين في الحفلة فما وجدت إلا إيانا. أما الزوجان المالكان للمنزل فلا يحضران أبدا، كما لا يوجد للعجوز أي صديق آت من الخارج، ولعلها اعتبرتنا نحن الأصدقاء المقربين.
باعتبارها الشخص الأهم في الحفلة تأتي إلى هذا وتذهب إلى ذاك بينما تمسك بيدها قارورة من النبيذ الأحمر، وتقول بعينين مشرقتين إن الحياة عامرة بالسعادة، أليس كذلك؟
نجيب بوجه جاف: بلى، إنها كذلك.
‘لقد كانت حفلة جميلة، وممتازة.’
‘نعم.. ممتازة.’
‘يخيل إلى أنني عدت إلى شبابي.’
‘أمر جيد، فضلي عودي إلى شبابك.’
راحت إليزابيث ترتب الحفلات بصورة مكثفة لتعود إلى أيام الشباب، ما جعلنا نئن ونمل، فتوقفنا عن مشاركة ما تنظم من الحفلات، ولكنها ما انفكت أن تأتي لتلتمس بصوت أليم، اليوم ذكرى خاصة لي ولا أحد منكم يأتي ويشارك!
‘ضغط شديد للدروس.’
‘اليوم يوم مهم مهم بالنسبة إلي، إذ في مثله جاءني بوب وعرض علي الحب، كان ذلك قبل ستين عاماً، ولكن كأنه كان قبل أيام…’
‘أرجوك، لا استطيع الذهاب اليوم، لدي عمل بحثي يجب الوفاء به.’
’تعال لمدة ساعة فقط.’
‘لا يمكن، لا يمكن أبداً.’
تحتفل العجوز بوحدها، وذات حين ينفجر صوت مزمار القربة المخيف، فيضطر أحدنا للذهاب. فالأمر لدينا مما لا يطاق. ما هذه المضايقة والعذاب!
على أية حال، قد شهد هذا العذاب نهايته في مطلع موسم الشتاء، فقد وردنا الخبر أن إليزابيث قد باعت المزمار لما لحق بها من ضيق الحال. تنفسنا الصعداء، فقد ارتحنا ولن يتوجب علينا نقض النوم في منتصف الليل والهرولة إليها.
ذات مساء، سمعت من أوننتا أن العجوز قد حملت إلى المستشفى بعد أن ألم به مرض، وصحتها لا تبعث على الارتياح. شعرت ببعض النكد، وذهبت إلى مستشفى القديس يوسف لرؤيتها، فكانت أن طارت بي فرحا، وسألت، وعينيها تشرقان ضياء: البطاقة، هل جئت بالبطاقة؟
في أمريكا إذا ذهبت لعيادة مريض فالتقليد ينص على أن تأخذ معك بطاقة، وقد نسيت أن أحمل معي بطاقة مكتوبة عليها كلمات الرجاء بالشفاء.
قالت إليزابيث: أنا أقوم بجمع البطاقات، فعند مجيئك في المرة القادمة خذ معك بطاقة.
‘أكيد، سآخذ معي بطاقة.’
‘انظر، ما أروع هذه البطاقة التي أعطانيها هان، أما هذه فقد جاء بها ‘طاها،’ فما أطيب هذه الفتاة. أرأيت ماذا فعل أوننتا؟ لم يأت فقط ببطاقة، وإنما بالزهور أيضا، فقد أنفق الكثير رغم أنه لا يملك المال، غضبت عليه كثيرا.’
انبسط قلبي بعد رأيت مسرة العجوز. وفي نهاية وقت الزيارة بينما أنا مقبل على الرحيل قالت لي بصوت خافض: هناك أمر يجب أن أطلب عليه عفوكم وسماحكم.
نظرت إليها بشوق، فقالت بنبرة خجولة: أتعرف لماذا كنت أعزف على المزمار؟ كنت سئمت العيش وحيدا وأتألم، وفور ما أبدأ في عزف ذلك اللحن القبيح أسرع أحدكم إلي، فأجد فرصة للتحدث ولو يسيرا. آسفة، فقد آذيتكم كثيرا.
انقبض قلبي وأحسست بألم، ولم أستطع أن أبوح بأي كلام.
تعافت العجوز بعد شهرين من المرض والمعاناة، ونظمنا حفلة استقبال صغيرة بمناسبة عودتها إلى البيت. ليست الحفلة فقط، وإنما هدية بسيطة أيضا، مزمار القربة الجديد، اشتركنا فاشترينا لها جميعاً.
إذا قال أحد بأن الأمريكيين لا يقدرون على البكاء فهو أجهل الجهلاء، فعندما تقدم أوننتا ناغ ورفع المزمار إلى يدها، تجمدت في مكانها ورمقت إلينا في دهشة واستغراب، ثم بكت كبكاء الأطفال. لم يحدث أن رأيت مشهدا للبكاء السعيد كهذا إلا فيما شذ وندر.
قصة قصيرة من تأليف: همايون أحمد وتعريب: محمد شمس الحق صديق
3 تعليقات