سألتني إحداهن يوماً مستنكرة؛
لماذا لا يتعامل الناس بتوازن، لِم المبالغة في تقمص أدوار ليست لهم، ما بال هناك ما يدعونه “زي بابا” “زي ماما” “زي أختي” “زي أخويا”، لما لا يكون الرئيس في العمل رئيساً وحسب دون أن يُحمّل نفسه وغيره ما لا يُطيقون من واجباتٍ ليست عليهم، فدور الأب ليس سوى للأب والأمر كذلك في كل شيء، لماذا تلك المبالغات في حياتنا؟!
ثم قالت ساخطةً: لم ليس هناك توازن في أي شيء؟!
.
أذكر أنه ذات يوم أخبرتني إحدى صديقاتي أنه ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما.
فتفكرت في واقع ذلك فوجدت جُلّ من كانوا مقربين بشكل مثير للانتباه هم الآن أبعد ما يكون عن بعضهم بل ومنهم من يحملون ذكريات سيئة وكأنه لم يكن هناك بينهم يوم جيد، وكأن كلاً منهم يرى ما بينهم من مواقف ليست سوى درباً من التظاهر والكذب!
ثم تأملت قليلاً في خبايا النفس البشرية وانعكاساتها على المواقف اليومية فوجدت أن البشر بشكلٍ عام راغبين في التغيير باستمرار، وذلك لأن النفس وببساطة تعتاد كل شيء جميلاً كان أو غير ذلك، ثم تَمَلُّه فتزهده ويُصبح إما أمراً ترغب في الهرب منه أو تغييره وإما واقعاً تتقبله على مضض وبالداخل نيران مشتعلة من الضيق.
إن نفوسنا يا رفيق تواقةٌ بطبيعتها مهما اختلفت التفاصيل، المهم في الأمر أنها تحتاج منّا تفهم ذلك ومن ثَم التعامل معه بما يجعل الحياة أفضل وكذلك استغلاله بما يجعل إنتاجيتنا أعظم.
فمثلاً: في علاقاتنا نحتاج إلى أهل وأصدقاء وزملاء وو..إلخ، أي إلى نوعياتٍ مختلفة من العلاقات والمشاعر فلا تَمَل ولا تُمَل.
فليس هناك يا رفيق من سيرتاح طويلاً وهو طوال الوقت في البيت بلا صديق ولا رفيق خارج نطاق العائلة، ولن يسعد طويلاً بالحياة مع أصدقاء بين الحياة والنت بعيداً عن الجو العائلي المختلف بالطبع، و “طويلاً ” تلك قد تكون سنوات وقد تكون شهور أو أقل، لكن الخطورة في الأمر أنه كلما طال على نحو غير معتدل كلما كان الرجوع أصعب لأنك وقتها ستكتشف أنك قد أهملت الكثيرين مقابل شخص واحد أو فئة واحدة، وستدرك أنك قد اعتدت الحياة بقالبٍ معين، ورغم ما تعانيه من ضيق واحتياج إلا أنك لا تعلم كيف تصلح كفتيّ الميزان.
وقد يحدث كل ذلك مع الطرف الآخر قبل أن تمر به بنفسك، فعليك عندها أن تلتمس له الأعذار وتضَع أمامك أنه يحتاج إلى مراجعة نفسه وحاله، فاترك له مساحته الخاصة.
وإذا أخذنا الأمر من ناحية أخرى تجد أن البشر غامضون مهما ظهرت شخصياتهم بسيطة، والعلاقات معقدة مهما ظهر انسجام أطرافها منذ البدايات، فقد يكتشف المرء مثلاً بعد عامٍ من علاقة أو صداقة أنه مع الشخص الخطأ، والعكس بالعكس، فقد تبغض شخصاً بمجرد أن تعرفه ثم يصبح من أقرب خلق الله إليك ولا تدري كيف تحول الأمر على هذا النحو.
لذلك فإن النصيحة يكمن فيها سر حماية نفسك من التسرع وما يعقبه من ندم، ومن الإسراف وما يعقبه من ملل.
وعلى جانب آخر تجد أن “هوناً ما” قاعدة مفقودة في كل شيء، فمثلاً أثناء الدراسة كثير من الطلبة يقضون أياماً عديدة دون إعارة الانتباه للتعليم ثم تجدهم في أيام قليلة بين سهرٍ واجتهاد لأن الامتحانات قد طرقت الأبواب، وكذلك هناك من يرهق نفسه في العمل ليل نهار حتى يأتي عليه وقت بلا قوة ولا طاقة، والأمثلة كثيرة في كل جوانب الحياة نفسية وعملية، لكن العنصر الأساسي هو أن التوازن في الحياة أمر ضروري وهو للأسف الأكثر ندرة والأشد صعوبة لكنه يستحق تحمل عناء المحاولات حتى يتحقق ولو جزئياً.
إن حياةً متوازنة بين أخذٍ وعطاء، عملٍ وراحة، جدٍ ولعب، لهي حياةٌ صحية منتجة، ووقايةٌ من كثير مما يعاني منه الناس حالياً.
وهنا أُكرر ثانية؛
“حاول فكل شيء مع المحاولات ممكن.”
مقال التصالح مع النفوس البشرية 🌸