في تلك الرحلات الطويلة بالسيارة أقوم بأمور كثيرة: الصمت، الهدوء، تأليف الحكايا والأهم ممارسة طقوس التأمل وطائر الذكريات معشعش فوق رأسي فلا أملك إلا الاستسلام له.. وهذا ما حدث معي قبل أيام بالضبط إذ سلمت الروح للطائر فحلق بي إلى مساء من أمسيات خريف سنة 2015.. إذ كان الجو في ذلك اليوم كئيبا ولكن أبدا لم ينذرني بشيء..
كنت مشغولة بتقسيم الكعك في المطبخ فدخل أخي راكضا وصعد الدرج بسرعة البرق مما جعلني أرمي ما بيدي وأتبعه وشواظ الحيرة يلتهم قلبي، فدارت برأسي كل الأفكار التي تنذر بالشر: أيعقل أن يكون الموت قد سرق أحدهم (من جديد)؟ أيعقل أن هناك من يترصد بأخي ففر هاربا!؟ أيعقل أن أمرا سيئا حدث لأحد إخوتي؟!…
في ثواني وجدتني في قمة الدرج وهنا حدث ما لم أتخيله ولم أشهده في حياتي من قبل: أحجار بيضاء ترمى على منزلنا فتضرب الأرض ضربا مدويا، بل سقوطها المتتالي على الصهريج المعدني أحدث صوتا أشد وقعا من صوت انفجار قنبلة…حجرة وراء أخرى..واحدة تليها واحدة..
تأكدت حينها من أن هناك من يترصد بأخي وإلا من يرمينا بالحجارة!
لم أدر ماذا أفعل فلا يمكنني العودة للأسفل فقد تشج الصخور رأسي فتدميه وفي غمرة حيرتي التففت يسارا فرأيت غرفة أخي فركضت نحوها في فزع مترنحة من وقع الصدمة وإذا بهتافات أهلي تتصاعد وتصدع رأسي المليء بفوضى الأفكار، كلهم يصرخون كلهم ينادون: زكية أين أنت؟ هل أنت بخير؟..
أردت أن أصرخ بهم باكية شاكية: لست بخير فأعاصير الحيرة تهشم رأسي.. ولكن كالعادة كنت أقوى من ذلك فصرخت: أنـا بخير داخل الغرفة لا تقلقوا..فاستسلموا للاطمئنان، ولكني أبدا لم أشعر بالاطمئنان فرحت أتساءل: يالله ماذا يحدث؟
تراءت أمامي شقوف مستطيلة الشكل في النافذة فركضت لأرى الحدث الذي لم أشهده من قبل: أحدهم يريد قتلنا جميعا.. وإذا بصدمة أعظم تعقد لساني: ليست حجارة بيضاء أبدا، ولا أحد يرمي بيتنا بها، ولا من أحد يترصد بأخي الخلوق، ربما زهور بيضاء أو لعلها كرات ثلجية ضخمة.. لا أبدا بل هي حبات بَرَد عملاقة تهطل هطول المطر من السماء.
ها هو جارنا وابنه يختبئان في السيارة، ها هم الناس هاربين للاختباء تحت شرف المنازل.. يا الله أيعقل أن يكون عذاب قوم عاد يحلُّ بنا؛ (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ)..
أيعقل أن يكون عقاب قوم ثمود يسلطه الله علينا: (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ)..
أم تراه بَرَدٌ سيهلكنا جميعا مثلما أهلكت القرون الأولى كقوم فرعون (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) وقوم لوط (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)..
فرحت أختبأ حينا ولساني يردد: اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.. وحينا آخر أراني أنظر من النافذة ومعركة طاحنة تدور بخلدي: أتراه يوم القيامة، أتراها الواقعة تقع الآن! (ليس لوقعتها كاذبة).. لا أبدا لم يظهر الدجال ولم تخرج الدابة.. وما يدريني لعلها خرجت وظهر ولم أسمع بها..
ولكن أعلم أن الأرواح المؤمنة ستقبض قبل هذا اليوم.. أيعقل أنني لست من المؤمنين.. فتتعالى صرخاتي في صمت: لا.. لا.. لا.. يالله لطفا.. أدور في الغرفة وأنا أكاد أجن.. أردت أن أصلي تأسيا برسولي صلى الله عليه وسلم.. ولكن ما من غطاء للرأس بالغرفة فلم أملك سوى أن يلهج لساني بكل الأدعية التي أحفظها..
كانت حبات البرد تتهاطل في قوة فحتما هي مأمورة بل كنت أتوقع أن ينثقب السطح في أي لحظة وحتما ستطحنني هذه الصخور العظيمة.. كنت وحيدة خائفة مذعورة تذكرت أن العبد يوم القيامة سيكون وحيدا بلا سند كل مشغول بنفسه: نفسي، نفسي وهذا ما دفعني على الجزم بأن ما يحدث: (قيام الساعة) بحد ذاته فلم أجد شيئا يشفع ورحت أحاول أن أزن ما فعلته طوال حياتي لأرى أي كفة ترجح ولكن لا فائدة تمنيت حينها لو أن للعبد ميزان أفعال يزن به أفعاله في كل مرة لتبقى كفة الحسنات في القمة..
كنت في كل مرة أرفع سبابتي مرددة -وأنا أنتظر قابض الأرواح ليقبض الروح فتصعد لبارئها-: “أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله”، وفي غمرة فزعي سكت الصوت وساد الصمت..
تحاملت على نفسي وتوجهت نحو النافذة فإذا بحبات البرد قد توقفت وإذا بالناس يخرجون من أوكارهم تساقطت الأمطار لتغسل أفئدة أدماها الفزع.. مشيت مترنحة وخرجت من الغرفة لألتقي بأخي حبيبي الذي جاء ليأخذ بيدي فحتما دار برأسه ما دار برأسي أو ما دار برأسه أقل وطأة فلقد كان مع بقية أفراد الأسرة إلا أنا التي رماني قلقي الزائد عن حده وحيدة (كالعادة) على رصيف الحياة.
كانت تجربة قاسية ولكن ما نسيتها من يومها فلقد جربت ولو قليلا كيف سيكون الأمر يوم القيامة إذ لا ينفع المؤمن مال ولا بنون، لا أهل ولا مكانة بل ما قدمه من أفعال وأقوال وما حفظه من أدعية وآيات لتخفف هذه الأخيرة من شدة الموقف ولن تفوز سوى النفوس المطمئنة: ((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)).