لطالما كنت أنظر إلى الأدب على أنه ذلك المحرك للمجتمع، والمرافق الرسمي لمسيرة التصحيح والتنوير والدفاع عن القيم الجمالية، متفقاً بذلك مع النظرة الاشتراكية للأدب، والذي تعتبره الرأسمالية نوعاً من أنواع التنفيس الروحي لأفراد مجتمع قد يحتاج للروحيات التي داستها أنظمة العمل الصارمة وساعات العمل التي تتغير بتغير اتفاقيات العمل المحلية.
من أجل ذلك، فأنا أكتب عندما أجد أنني بحاجة لأن أقول شيئاً، وهذا يكون دائماً بعد قراءات أو مناقشات أو مناظرات، إن كان مع النفس والهوى، وإن كان مع الغير، فالسؤال هو في مذهبي مفتاح المعرفة، وهو دافعنا للاستزادة والمعرفة.
تختلف مراحل ولادة النص باختلاف ماهية النص (من رواية أو مقال أو قصيدة) كما أنها تختلف من الغاية من خلق ذلك النص وتقديمه للجمهور، الذي يؤثر هو بدوره على مراحل تكوين النص.
طبعا النص مُختزلاً في رأس المؤلف، إلا أن نوعية القارئ أو الجمهور الذي سيُعرض عليه النص، له تأثير آخر وواضح على النص، منذ ساعات ولادته كمسودات غير مترابطة، إلى تخليده ككيان قائم بذاته من خلال نشره وإظهاره.
شخصياً، يعتلج النص داخلي، ويقذفه الله داخلي على هيئة سؤال واستفسار، ومن ثم يكبر وينمو نتيجة القراءات التي كان المراد منها إطفاء ذلك الظمأ المعرفي، فيعايشني النص وأعايشه.
ينمو النص داخلي، ويعبث بخلاياي المزاجية، فتختلف طباعي وتنزع نحو الحدّة.
انطوائيتي أثناء البحث والتحري عن الأجوبة المتطايرة يجعلني كئيباً، فأنزع للوحدة والتفرّد ليأذن الله بقرار إخراج ذلك الشيء المتضخّم داخلي على شكل فكرة تُرمى على ورق، سرعان ما أسارع بعدها لنوم طويل يهبني بعض السكون والراحة.
نومي الطويل الذي اعتبرته راحة لي، سرعان ما يتبدى لي غير ذلك، وتوقظني الأفكار الجديدة المتوالدة، فأهرع لصومعة تفرّدي وكآبتي، وأباشر بخط أول سطور النص، تلك السطور التي يكون مصير أغلبها الإعدام بعد أول استراحة فكرية.
مرحلة بناء النص تختلف كما قلنا حسب ماهية النص وجمهوره..
فتبدأ مرحلة اختيار نوعية الكلمات تبعاً للمراد لها، صادمة، شامتة، شاتمة، وما إلى ذلك.
المراحل الأولى من البناء تتطلب ذلك التركيز العالي، والفطنة المطلوبة، كي لا يهرب النص فيصبح أوسع من الفكرة، أو يُختزل النص ويكون أضيق من الفِكرة، فالفكرة هنا هي المتحكم الأكبر بالنص حجماً وتفصيلاً.
بعد ولادة النص وتجلي الفكرة المراد إيصالها، أنفصل تماماً عن النص، بحيث يصبح كياناً قائماً قادراً على الوجود دون وصاية ودون الحاجة لمسوّق أو مُدافع أو مروّج.
فالنص هنا هو من يفرض ذاته وهو من يسوّق ذاته وهو بجودته ورسالته من يروّج لنفسه ويدافع عن كينونته ووجوده.
هنا، تنتابني لذة الموجد من عدم، فأنقطع لذاتي وأفخر بأدائي وأعطي لنفسي تلك الإجازة التي تستحقها متناسياً كلّ ما مرّ سابقاً.
فقد قلتُ ما أريد، وهو موجود لمن ألقى السمع أو أراد الاستزادة.