10 محطات في حياة الكاتب التونسي الراحل كمال الزغباني

1. الخبر

الإثنين 14 أيلول/ سبتمبر 2020. رحيل الكاتب وأستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية كمال الزغباني. خبر يمزّق منتصف اليوم في تونس. الراحل من مواليد 1965، له روايتان منشورتان: “في انتظار الحياة” (2010)، و”ماكينة السعادة” (2016)، وله كتاب جَمع فيه مقالاته النقدية والفكرية بعنوان “أخلاط في البهيموقراطية والثورة” (2011)، كما سهر على إنجاز كتاب بعنوان “في فن العشرة وفلسفتها” حول صديقه سنان العزابي. 

بمثل هذه الكلمات يمكن إرضاء متطلّبات الخبر الصحافي في هذا المقام. لكن ما أبعد نزعة القوالب هذه من كمال الزغباني.

2. الحوار

ربيع 2012. مع سياق الثورة في تونس، يُفترض أن يكون كمال الزغباني، بحضوره في أحداثها وبنقائه من كلّ شوائب الاختلاط بالمنظومة السابقة وبرصيده المعرفي، أشهر من نار على علم. ليس الأمر كذلك، فكمال غير حريص على التموقعات ولا على الظهور إلّا في مقامات يختارها بعناية. 

بحثتُ عنه – أوّل مرة – في معرض تونس للكتاب في أول دورة بعد الثورة. كنت حصلتُ على كتابه “أخلاط في البهيموقراطية” من قارئ زهد فيه – لا داعي لذكر الأسماء – على الرغم من أن صفحته الأولى تحمل إهداءً شخصياً من المؤلّف.

كانت المقالات تشبه نخيلاً مثقَلاً بمفاهيم فلسفية قد تنفّر القارئ، لكنها مع الزغباني لا تكون سوى علامات في طريق ثم ينطلق بخفّة إلى نقد ظاهرة أو حدث فيقدح الأفكار في الذهن قدحاً. تخلق أسئلة الكتاب طلباً على الكاتب.

بعد تسويفات لطيفة منه، التقينا أخيراً. تحدّث كمال الزغباني خارج الأسئلة عن مسارات في الفلسفة والأدب والثورة وما قبل الثورة. يقف بتوازن بين قارّتي الأدب والفكر. بل يؤكّد أن بوصلة لا تشير إلى الفكر والفن – معاً – مشبوهةٌ.

حين نُشر الحوار، التقطتُ إحدى مقولاته كعنوان: “مازال عمر البهيموقراطية طويلاً”. وبالفعل لا زال الأمر كذلك.

3. محاضرة

2014، على الأرجح. ذات مناسبة ثقافية أُقيمت في “دهليز” دار الثقافة ابن رشيق في تونس العاصمة، كان الزغباني حاضراً مع آخرين على الطاولة. لا أذكر إلّا عبارة مفادها: “بعد دون كيشوت، عرفنا أنه علينا أن نقيم في العالم دون ضمانات”.

4. تصريح هاتفي

بدايات 2016. جرى الإعلان عن مشروع “الجامعة الشعبية – محمد علي الحامي” في أحد الأحياء الشعبية لتونس العاصمة. كان كمال الزغباني أحد المؤسسين، مع المخرج نصر الدين السهيلي وأستاذ القانون الدستوري في الجامعة، قيس سعيّد، رئيس الجمهورية حالياً. 

بعد يوم من الافتتاح الرسميّ اتصلتُ هاتفياً بصاحب “في انتظار الحياة”. كان يوم أحد. حدّثني في تصريح صحافي عن مساهمته في المشروع من موقعه كأستاذ فلسفة. قال: “لن نقدّم الفلسفة بالطريقة التي نجدها في الجامعة، سنعتمد طريقة أفقية تتلاءم مع الفكرتين الجوهريتين للجامعة الشعبية وهما: التقاسم والقرب”. 

ثم تفرّع الحديث عن مقارنات مع تجارب أُخرى للجامعات الشعبية في المغرب وكوبا وكوت ديفوار وفرنسا، بعضها سرعان ما توقّف، وكان ذلك مصير “الجامعة الشعبية – محمد علي الحامي”. علمتُ بانسحابه لاحقاً، لكن لا أذكر أني سمعت تفسيراً لذلك، أو ماذا حدث للمشروع برمّته كي لا نسمع عنه الآن شيئاً.

5. رواية

نوفمبر 2016. في الصيف الماضي، صدرت رواية “ماكينة السعادة”. لم يتسنّ لي قراءتها وقتها، فقد انتهت طبعتُها سريعاً من المكتبات. لم أكن أدري هل أن الطبعة محدودة أم هو إقبال استثنائي على الأدب التونسي. في تلك الأيام كانت رواية “الطلياني” لشكري المبخوت تعيش حالة مشابهة من النفاد السريع من المكتبات. 

في الخريف، كنت في مسرح “لارتيستو” الذي يديره غازي الزغباني، ابن أخ كمال. وجدتُ نُسخة من الرواية معروضة للبيع، ربما كانت الأخيرة. تحدّثتُ مع غازي قليلاً حولها، وقال إن لديه مشروعاً بنقلها إلى المسرح. 

ياله من تحدٍّ. فالرواية عالم متشابك متشعّب متشظٍ، تنتقل بين المدن وعقول الشخصيات وترسم صورة متهكّمة عميقة عن تونس الجديدة، من حدّة وتجهّم القاع إلى بهلوانيات المشاريع الربحية.

على فكرة، مؤلّف الرواية هو شخصية داخلها. أعتقد أن كمال الزغباني شخصية أدبية أكثر من كونه شخصاً من لحم ودم. يليق به أن يكون شخصية روائية أكثر من أن يكون أحدنا.

6. فن العشرة

ربيع 2016. قرأتُ إعلانه عن إصدار كتاب عن رفيقه الراحل سنان العزابي وقد جمع فيه أيضاً نصوصاً له. بدا كمال الزغباني في هذ الكتاب وكأنه قد اشتغل على نقل عالمه الصغير إلى سماء المفاهيم. أذكر أنه كتب على صفحته الفيسبوكية بأن عائدات الكتاب ستذهب إلى “شقاقة” (حصّالة) ابن سنان. انطلاقاً من ذلك، اتفقّتُ معه على لقاء في مقهى وسط العاصمة لاقتناء نسختي. يبادر أوّلاً باقتراح أن يهديك الكتاب ثم لك أن تشتريه، ينبغي أن يكون ذلك بمحض إرادتك.

7. صورة

كمال الزغباني.. تعرف على الروائي والفيلسوف التونسي الحاصل على جائزة الرواية في تونس

ربيع 2017. فازت “ماكينة السعادة” بجائزة البشير خرّيف للإبداع الأدبي ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب. حين صعد إلى المنصّة كان كمال الزغباني يرتدي قميصاً يحمل شعار حملة “مانيش مسامح” (لن أسامح). حملة ترفض مصالحة الفاسدين من زمن النظام السابق. سعادة نيرفانية كانت ترتسم في وجه كمال وهو على المنصّة.

8. محاضرة ثانية

ربيع 2019. في بلدة النفيضة بالقرب من مدينة سوسة، حضرتُ مرّةً أُخرى مشاركة لكمال الزغباني في ندوة بعنوان “الأدب والفلسفة”، وعلى المنصّة صاحَبَه يومها سليم دولة الذي تحدّث عن الشعر، فيما كانت كلمة الزغباني عن “التفلسف روائياً”. هذه المرّة كنت متسلّحاً باستعداداتي الصحافية. سجّلت ما قاله. مرّةً أُخرى يتحدّث عن دون كيشوت. وأكثر ما أكّد عليه هو نقد الاستعمال السيّئ للتفلسف في الرواية، ناهيك عن الاستعمال السيّئ للتفلسف في الحياة. 

9. دوستويفسكي

نهايات 2019. في تلك الأمسية في “بيت الرواية”، تحدّث الزغباني عن عشيره دوستويفسكي. كانت قراءةً شخصية جداً، بعيدة عن التعالم، غير ملتزمة بمنهج مسبق وكأنه يجيب عن سؤال: “ما الذي يبقى من روايات دوستويفسكي بعد أن ننسى كل شيء؟”. من زاوية ذاتية بحتة، سلّمني كمال الزغباني في ذلك اليوم مفاتيح شخصية الأمير مشكين، وقد كانت رواية “الأبله” عالماً مغلقاً. قال كمال الزغباني يومها أنه يفكّر في إنجاز كتاب حول أدب دوستويفسكي. أتمنّى أن يكون قد قطع فيه أشواطاً.

10. زغبانيا

لم أدخل زغبانيا. هي حديقة بيته في ضاحية “المروج”، إذا صحّ توصيف الحديقة في طورها الأول، فقد كانت قطعة الأرض تلك مساحة من التراب الملوّث. وبرعاية وعناية كمال الزغباني تحوّلت إلى حديقة يسقيها ويكتب عنها. كنتُ أسمعُ أخبارها من خلال حسابه الفيسبوكي. يرعى النباتات والحيوانات والكتب والصداقات فيها. 

التقيت كمال الزغباني آخر مرّة أمام قاعة “الفن الرابع” دقائق قبل عرض مسرحية “سوق سوداء”. قلتُ له إني أوّد زيارة زغبانيا والكتابة عنها، رحّب بالزيارة دون الكتابة عنها، بالنسبة له زغبانيا فضاء عام مفتوح، لكن يفضّل ألا يُسلّط عليه الكثير من الضوء. 

ربطتُ وقتها بين حديقته وعوّامة رواية “ثرثرة فوق النيل”. تخّيلتُ نفسي في دور الصحافية؛ تحديداً ميرفت أمين حين أدّت الدور للسينما. دُعيتْ مرّات إلى العوامة فانبهرت بذلك العالم الذي يختزل المجتمع برمّته، وبدأت تسجّل في دفترها ملاحظات قبل أن يكتشف المرتادون سرّها الصغير.

وكما أنها تشبه عوّامة نجيب محفوظ، فإن زغبانيا تحيلني إلى ماكوندو ماركيز، هي ماكوندو تونسية. انتقال من التصحّر البيئي لمنطقتها إلى كثافة غابات أميركا الجنوبية. وهي مثل ماكوندو برزخ يكون فيه المكان حقيقياً ومتخيّلاً في نفس الوقت. ها قد داهم الموت صاحب الحديقة المخترعة اختراعاً داخل الصحراء البيئية والثقافية. هكذا يدور الليل والنهار على زغبانيا؛ يأتي الموت لواحد منا أما البقية فهم “في انتظار الحياة”.

Exit mobile version