ليست مرئية للأخرين بما يكفي، يقول الجميع بأنها ليست هناك وأشعر بالدهشة وأنا أوضح لهم أنني أراها كل فجر..
تعيش عجوز في ذلك المنزل على أعلى التلة التي تطل بقليلٍ على وادٍ جفّت مياهه قبل سنوات مرت، تستيقظ عند كل بزوغ للفجر، تخرج من منزلها بردائها الرخيص لم تغيره قط منذ ذلك الحدث..
أكمام تلك الوزرة تميل للبني وخيوطها تتدلى منها وحجابها الذي تحكم قبضته أسفل ذقنِها كأنه موصد بإحكام لم تحركه الرياح قط ظل جامدا..
تجلس فوق كرسي خشبي متأرجح تمسك عقيقاً في يدِها وتبدأ بالتأرجح..
تستقبل الشمس بهذه الطريقة كل صباح، كأنها مجنونة، كأن هذا الذي أصابها أودى بحياتها للجنون..
كلماتها تتعثر بذلك الشيء في صدرِها يكمل طريقه ليجد الحنجرة مليئة بأشياء موجودة بشكل لا إرادي، يجتهد ليجد مكاناً للخروج، وما إن يصل إلى عضلة اللسان حتى يتلاشى ويصبح ضعيفاً، فتخرج تلك التنهيدة الحزينة من أعماقها.
كلمات ترددها دوماً، هدوء المكان وحبه لها جعله يكرر كلماتها القاسية، “نَدَى الرّحيلُ بالفِراق… هَل بعدَه من لِقاء.”
فتبتسم في أخر كلمة حامِلة معها آمالاً كثيرة، مسكينة قلبها تعود على فتات الذكريات التي تُركت معها بعد رحيله، وعليها ظل يقتات من حينها..
تتوقف لتستطلع المكان بعينيها المغمضتين، وما أن تعري الشمس عن خيوطها، تتنحى وتدخل جحرها إلى بزوغ فجر جديد..
ستمر بك أيام مغطاة بعباءة حزن، سوداء بطلّتها، تغتصب قلبك بكل ما أوتي من عفة، ستكبر للدرجة التي يصغر فيها الأمل في عينيك، لكن هذه العجوز لم تسمح للأيام بأن تفسد آمالها أو أن تكسر شغف اللقاء الذي جعل نبض قلبها حياً كل هذه المدة..
بكت بحرقة عندما ودّعت ابنها المهاجر، قبل ثلاثين سنة، كان في مقتبل العمر عندما تركها ليكمل دراسته، قادتهُ أرجله لما وراء البحار، وكان الموت أول من يستقبله.
لم يجرؤ أحد من سكان القرية أن يخبرها بالواقعة، فتوالت السنين وجفّ الوادي، وانتشر سكان القرية، كل في حال سبيله هناك من هرب من الجفاف لحياة أخرى، وهناك من هرب من الحياة للحياة الباقية، أما العجوز فقد أفنت حياتها في قريتها، لربما يعود ابنها ولا يجدها في المنزل..
غزاها الشيب وجعل منها عجوزاً بشكل فظيع، لدرجة أن أرجلها لم تعد تساعدها على الوقوف، بدأت تجف هي الأخرى وتسلك مصير القرية.
سبحان من بيده كل شيء، رحم الله عباده وأمطرت الحياة في القرية، وعادت الروح للمكان، سُحُب الواقع جردَتها من أمالِها وغدا صوتُها عاليا.
وجدت العجوز جثة في ركن من أركان بيتها، تغير مذاق ذلك الفجر لم يعد كأقرانه ممن مضوا، لكن أرجوحتها ظلت تتحرك إلى أن عرت شمس ذلك الصباح عن خيوطها…