مدوناتمدونات أدبية

بروج.. بيكاسو العرب

لقد سمعت بمدينة بروج أو بريج، على اختلاف التراجمة في نقل حرف “U” اللاتيني غير الموجود في لغتنا، لأول مرة في أغنية حزينة للشاعر والفنان الرائع جاك بريل وأنا بعد في سن المراهقة الأولى..

وهي أغنية مفجوعة يتحدث فيها مع جده عن بروج حينما كانت لندن مجرد ضاحية منسية في العدوة الأخرى لبحر الشمال..

وجاك بريل عرف دون غيره كيف ينقلني ويرميني في غائر الجراح ومرير البلوى ودونما استئذان.. وهو فوق ذلك من القلة الذين يخلقون في السامع حالة إدمان مرضي بشعره وصوته وتلاحينه..

ومع كل سماع يكتشف السامع/الضحية أشياء لم تخطر له على بال، وينتبه لمعان جديدة، باهرة ومتوالدة..!

لم يتوقف الأمر -بالنسبة لي- على بريل وأوجاعه وأناته، منذ أن أهدتني صديقة بلجيكية تعود أصولها لإقليم فلاندريا رواية عظيمة لكاتب فريد عنوانها “بروج الميتة” وهو “جورج رودنباخ”..

تفاعلت أحداث الرواية العجيبة وتفاحشت في ذهني؛ على إيقاع بريل المتوثب دوماً للانقضاض عليّ في حالات وجدانية خاصة، حميمة وعصية على الفهم والسرد.. وبهرتني الرواية المكتظة بالرموز والنازفة بالحزن..

وكيف لا والشخص الرئيسي فيها هو مدينة بروج نفسها، وبشكل يتقمص فيه المكان تسلسل حيوات الشخوص، ويتطابق معها بشكل رائع وبطرائق موغلة في فنون غير مسبوقة في عوالم الدهشة والإثارة..

لقد تركت فيّ عبقرية رودنباخ زوابع وتوابع مازالت تلعب بداخلي أنى شاءت وكيفما شاءت، لذلك قررت الذهاب إلى هناك، وليس لي غير “جاك ابريل” و”جورج رودنباخ” من دليل!..

وفي زوال يوم ربيعي من القرن الماضي، وجدت نفسي في زورق يطوف بي قنوات ماء لمدينة العشاق وعاصمة الفن المتحدية لريح الشمال، والصامدة في وجه أوبئة القبح المتفشي في كل مكان من هذا العالم الشرير والمحتقن.. مدينة فقدت جبروتها منذ زمان، لكنها ظلت جميلة وراقية، ترشح بالرقة وتفيض بالحب..

وتحت كل جسر مررت منساباً على صفحة الماء، سمحاً ومتبتلاً كخرير جدول.. وكانت حمائم الأيك تغرد على القباب، وتتلمس الظلال.. فتذكرت حمائمنا وقت الهاجرة وهي تتلوى ألماً بين الماء والطين..

العابرات كلهن قصائد، والجالسات كلهن غناء ومواويل!!..

ثم انتهى الطواف كما تنتهي دوماً طقوس التعبد والخشوع في محراب الجمال الحق.. وعرفت أن بروج كانت سيدة زمانها في نهاية القرون الوسطى، وموضع الثروة ومركز التجارة، لكن القنوات التي ربطتها ببحر الشمال غلبها الطمي واندثرت، وتحولت من ميناء أوروبا الأكبر إلى مجرد بلدة وادعة ومنسية..

في بروج عرف الزجاج رونقه، وفيها تسامى الفخار وكانت أنوال القماش تنتج للعالم أجمع، وفيها عائلة البورس التي نظمت في بيتها القائم دوماً في الجادة الكبرى بوسط بروج أول سوق للسندات والمضاربة الموازية، وهو السوق الذي حمل إسمهم للشهرة في كل مكان صارت فيه بورس أو بورصة كما عرّب المشارقة إسم العائلة البروجية العريقة..

وغير بعيد من بورصة البورس؛ تسامت في العلياء كنيسة قوطية عجيبة أجراسها من إبريز وقرعها غريب، وفي إيوانها الفسيح  تحت القبة وقف أجمل نصب أبدعته أيدي “ميكيل آنجلو” للبتول مريم، وهو تمثال في غاية الإتقان ويتخطى في فنيته وجلالته كل أعمال العبقري الايطالي الأكبر المتوزعة على دول أوروبا المختلفة..

كاووس أو الفوضى الخلاقة..

رحت هائماً في طرقات بروج، وأحسست بها مليسة كالحرير حين يناغي نهود الصبايا، مشتاقة تسعى لمشتاق، ومنعتقة كالنهرعند ما يرتمي في حضن البحر.. ومشيت ومشيت حتى انهكني التعب، فقلت إجلس قليلاً وألتقط أنفاسك، واخترت أفخم المقاهي وجلست على أريكة وثيرة، وطلبت فنجان قهوة، وقلت لنفسي أكتب شعراً أو نثراً، وانشره على صحف التبليغ ولا تخشى عيلته وتوكل على الله..

وبينما أنا منهمر كالأضواء السوداء على الأريكة التي تظللها سقيفة المقهىى، مر أمامي رجل متوسطي القسمات حاد الأنف، يلبس جاكيتة من جلد أحمر وبنطالاُ من جينز أسود، وعلى رأسه هامة من شعر كثيف ومرعب يصل قطرها لمتر أو يزيد، ولقد صعقت مما فعل بنفسه وقلت لنفسي لعل به مِساً من جنون.. وقلت وكيف لا وهو لم يحلق شعره من ربع قرن !..

وماهي إلا لحظات حتى توقف الرجل صاحب الهامة الكثيفة كغابة ظلماء من أدغال افريقيا البعيدة، وهي الغابة المجعدة والمتموجة كحمم بركان هادر.. ألقى نظرة على الجالسين تحت السقيفة وابتسم ودلف إلى الداخل ثم جلس قريباً مني على طاولة كان ينتظره عليها رجل ستيني وقور، أبيض الشعر.. كأنه من جحاجيح النصارى في أناقته وترتيبه وكياسته، واستغربت من مدى تناقض المظاهر بين الجليسين..

وما هي إلا لحظات حتى تناهى إلى مسمعي شيء من حديثهم، وخلتني سمعت كلمات عربية لم أستطع أن أتبينها، فابتسمت نحوهما وقلت بصوت مسموع، سائلاُ هل الإخوة عرب؟.. فتهللا وقال صاحب الهامة الكثيفة، نعم من العراق، فقلت له وهل صاحبك هذا “أدونيس”  فقد كان الرجل الوقور يشبهه في الملامح، وفي كثافة الشعر الأبيض المتناثر، فابتسم الرجل المسن وقال، لا إسمي طلال ومن العراق أيضاً، وأضاف، انضم إلينا نتحدث قليلاً بلغتنا، فاقتربت وجلست معهما ..

عرفت أن الأول رغم بوهيميته الظاهرة؛ محدث لبق وفنان كبير وعارف بقضايا الأدب العالمي، واسمه حمادي وأصله من جنوب العراق، بل لعله من أصل هاشمي فاخر.. وقد جاء إلى هذه الربوع بعد مقام طويل أمضاه في دراسة الفنون الجميلة بإيطاليا، ويعيش منذ زمان في مدينة خنت..

وقد كان منذ صباه فناناً بالفطرة، من النوع الذي يرسم صور العرايا على رداء أبيه وعلى جدران الحارة.. وقضت نزعته الفنية على كل كوامن الشر وميول العدوان فيه، لذا رفض الجندية والحرب لأسباب فلسفية خاصة.. فسجن وعذب، وهو مصّر على رفض فكرة القتل.. ولما أطلق سراحه وتمكن من الخروج من العراق التحق بالحياة التي يريد للفن وللفن فقط..

الشخص الثاني عبقري كبير -مجهول  عند العرب- واسمه طلال عبد الله، يعود أصله للموصل وقد جاء إلى بلجيكا لدراسة الميكانيك والرياضيات في بداية السبعينات، ونال شهادة في التخصصين من جامعة خنت وجامعة آنتويرب، لكن جينات الفنان تمكنت من الإمساك بتلابيب روحه، واستعادت موروث أكد وبابل وآشور، وأصبح في وقت يسير من أكبر الرسامين في العالم..

مهارة صديقي طلال ونجاحاته تجلت في قدرته الفذة على التفوق على كل رسامي اللوحات الزيتية والماء، وتجاوزه في البورتريه لكل جهابذة الفن وأساطينه، وهو لم يقلد أحداً ولم يتتلمذ على أحد بالمعني الجامعي للكلمة..

ترخص كثيراً وتوسع وحوّل الغرافيك من تقنية رقيعة إلى رسم نبيل، وادخل الحواسيب لقياس الزوايا والتحكم في الظلال، ولم تفقد رسوماته  تلك اللمحة الإنسانية الساحرة التي هي سر فرادتها وحجرها الفلسفي.. زوجة حمادي سيدة فلمنكية راقية، عملت في السلك الدبلوماسي لبلادها، ثم استقالت وتفرغت لمؤازرته في تأسيس مدرسته الفنية وتنظيم أوقاته، وقد خلدها في أكثر من لوحة مشهورة طافت بعواصم العالم أجمع..

الفن يصقل الروح وهو غذائها، والرسم عند الأوربيين يعادل الشعر لدينا..

وهو باختصار ديوان العجم وخازن تاريخ الروم..

وعند طلال يختلط الشعر بالرسم، وتلبس كثافات المادة ألطاف الروح ويهيمن العنصر السماوي على كل ما هو أرضي وذلك جلي في كل إبداعاته..

لقد حدثني عن ماضيه وعذاباته، وحدثته عن عذاباتنا وحاضرنا الحزين.. وفي المساء الموالي كنت أجلس معه في مقهى مطل على الجادة الكبيرة، حتى مرت أمامنا سيدة موريتانية تلبس ملحفة مزركشة بألواننا وقد اختلط الأحمر فيها بالأخضر وبالأزرق، فقال لي هذه تلبس لوحة بديعة!..

قلت له مفاخرا أنها من بلادي، وأن النساء كلهن منمنمات ومراسم متحركة.. وكلهن فن وجنون!..

اقترب منها باسماً وقال سيدتي هل تسمحين بصورة؟..

لقد كانت جميلة رغم اكتنازها، ووقورة ومحتشمة.. لكن زوجها المتخلف كان يتبعها كالقرين الحارس، وغضب من ملاطفة الفنان المسن لعقيلته، وأزبد وأرعد..

فابتسم طلال وقال لي ساخراً لماذا دائماً حراس التحف متوحشون هكذا!؟..

شرحت لعابر السبيل أن ما اعتراه تسرع وسوء فهم لفنان سمح عفيف، ولا حاجة له بزوجته بل بملحفتها وتباريح الوجد المرسومة عليها.. ولم يستطع فهم الفكرة ولا إلتقاطها فتركناه وسبيله وفارقناه ..!

اقترح عليّ طلال دراسة الفن والتفرغ له، لكن واجبات عائلية وبقايا من رواسب البدو منعتني من قبول عرضه..

وفي الطريق إلى محطة القطار كان أهل البلدة، أكابر وبسطاء يتسابقون لتحية عبقري بروج وفنانها الأكبر طلال عبد الله، الموصلي العراقي الذي أكتب عنه هذه الحروف محاولاً تسليط نقطة من الضوء على موهبة عربية أصيلة، وعقل متوقد وطفاح، وكلي يقين أنني لم أعطه حقه من التنويه والشكر..

طلال وحتى حمادي..

وغيرهما من عباقرة العراق؛ كنوز بشرية نادرة، وعقول نظيفة راقية، وما كان لهما الوصول إلى مراتب الشهرة والعالمية لولا ظروف العراق وحروبه؛ التي جعلت منه شعباً مشتتاً في أصقاع العالم، وأعطت رغم كل الإبتلاءات لنخبة العراق ما وهبته الحرب الأهلية للنخبة الإسبانية من تواصل بالعالم وعلومه، وهي النخبة الرائعة التي أعادت بناء إسبانيا وتمكينها من تجاوز العثرات..

بعبارة أخرى أكثر وضوحاً؛ فمن كان مهندساً بسيطاً في العراق جعلت منه سنوات الغربة وفرصة الإمتياح من روافد عديدة وثقافات مختلفة مبدعاً في علمه الأصلي، وفي علوم عديدة وهذه هي ثروة العراق الحقيقية التي لا يضاهيه فيها أي بلد في العالم، وهي العقول والسواعد التي يمكن أن تقوم بمسؤوليات النهضة العراقية والعربية، لو تمكن ساسة العراق من تجاوز طائفيتهم البغيضة ومحاصصاتهم السخيفة..

أتمنى أن يكون صديقي طلال قد استطاع العودة للعراق بعد عقود من الغربة والاندماج الناجح في بروج، الميتة حسب رودنباخ.. بروج المتوهجة كما تمور في رسوم وآثار عبقري العراق وبيكاسو العرب دون منافس..

كاتب التدوينة: محمد ولد أمين

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

أظهر المزيد

صهيب شنوف

مهندس جزائري مؤسس موقع MTAYOUTH، مهتم بإثراء المحتوى التعريفي السياحي والثقافي للدول المغاربية، وبالأخص وطني الجزائر. للتعاون والتواصل: eng.souhaib.channouf@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
marsbahisEscortSaatlik escortManisa escortGümüşhane escortfethiye escortEsenyurt escortmasözmasözantalya escortzlotdeneme bonusu veren sitelercasibombets10casibompusulabetbetmatik twitterbaywinGrandpashabetcasibomholiganbetbettilt girişcasibom girişslot sitelerisekabetbetmatikbetkanyonsekabetholiganbetdeneme bonusubonus veren sitelerataşehir escortjojobetümraniye escortmarsbahisdeneme bonusu veren sitelerdeneme bonusu veren siteler 2024deneme bonusu veren siteler 2024fethiye escortfethiye escortmarsbahismarsbahismarsbahiscasibomMeritkingsophie rain leakescort esenyurt
Etimesgut evden eve nakliyatankara ofis taşımacılığıEtimesgut evden eve nakliyattuzla evden eve nakliyatçankaya evden eve nakliyatmersin evden eve nakliyatçekici ankaraAntalya Çitseo çalışmasıtuzla evden eve nakliyatmaldives online casinoankara evden eve nakliyatoto çekiciEtimesgut evden eve nakliyatEtimesgut evden eve nakliyatEtimesgut evden eve nakliyattuzla asansörlü nakliyatpolatlı evden eve nakliyatMedyumniğde evden eve nakliyatyenimahalle evden eve nakliyateskişehir uydu servisigoogle adspubg mobile ucankara evden eve nakliyattuzla nakliyatüsküdar evden eve nakliyatMapsodunpazarı emlakAntika alanlarAntika alanlarAntika alanlareskişehir web sitesikocaeli evden eve nakliyatantika eşya alan yerlerantika eşya satmakseo fiyatlarıdex trending botdextools trending botdextool trending servicedextools trending servicecmc trending botcoinmarketcap trending botdextools trendingtrending bothow to trending on dextoolsdextools volume bottrending on dextoolsfront runner botfront run botfront running botmev botdex sniper botpancakeswap botpancakeswap sniper botsolana sniper botsol sniper botsolana botMetafizikdextools trendingmarsbahis girişmarsbahismarsbahismarsbahis girişcasibom girişcasibom girişcasibom giriş twitterMedyumantikaİzmir Medyummarsbahis girişviagraweb sitesi yapımımarsbahiscasibom girişteknede eğlenceesenyurt masaj salonugrandpashabetgüvenilir bahis sitelerigüvenilir bahis siteleri