نازلة ولد مخيطير – الجزء الأول

إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه؟

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ؟ كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

بشار ابن برد

ذات مساء صيفي قائظ،، أتاني عبر الهاتف، صوت صديق عزيز يطلب ملاقاتي وعلى الفور،ليخبرني بنبأ هام. استشرفت من نبرته أن بجعبته خبراً جللاً فحددت له مكان تواجدي وما هي إلا دقائق حتى كان أمام دارنا، فخرجت نحوه ووجدت برفقته شخصاً ودوداً، سبق وأن تعرفت عليه وأصبح صديقاً عزيزاً هو الآخر، يدعى “مولاي أحمد” وهو رجل أربعيني يمارس التجارة وينحدر –كما تفيد بذلك تسميته- من الدوحة الشريفة.

وجود شخص آخر برفقته جعلني أميل إلى أن النبأ الذي بجعبته لا علاقة له بالسياسة والهم العام، حيث درج الناس ببلادنا على تجنب الحديث في السياسة هاتفياً، لذا ساورني شعور لزج بالغرابة والتعجب.

بعد تبادل السلام والتحية.. قال لي صديقي سالف الذكر أن مولاي أحمد هذا يريد أن يقول لي شيئا ما !

مولاي أحمد إنسان محمود السيرة والسلوك ويعتبر في معايير الشريعة شخصاً عدلاً يصلح للتزكية والشهادة أمام أكثر القضاة تشدداً..لذلك أكتب لكم ما قال بأمانة وحرفية:

منذ ساعات قليلة كنت نائما وحظيت برؤية المصطفى صلى الله عليه وسلم… وكان الناس يتجمهرون حول المكان الذي جلس فيه ويتزاحمون لرؤيته.. ثم تمكنت من الاقتراب من مجلسه فوجدتك قبالته تحادثه وتستمع إليه ورأيتك حين خرجت من حضرته طافحاً بالصباحة والجذل.. وكان في يدك ملف اخضر فسألتك عن أحوالك وعن حقيقة أمرك مع النبي فقلت لي بسعادة وحبور: لقد فرجت بحمد الله.

ثم دخلت أنا على النبي من بعدك فوجدته -صلى الله عليه وسلم- باسماً يتحدث عنك وفي خضم حديثه عنك أمرني أن أعطيك مبلغاً محدداً من المال  !”

بالفعل سلمني ذلك المبلغ.. وافترقنا ولم نلتق بعدها إلا لماماً.

هل فيكم أيها القراء الأعزاء من يستطيع أن يُخمن -ولو لحظة واحدة- حالتي الوجدانية بعد تسلمي لهذه الرسالة النبوية التي حملها إلي ذلك الشريف المحقق؟

شخصيا أعجز عن وصف حالتي النفسية ساعتها.. ولكم أن تتخيلوا دون حرج مدى فرحتي وسعادتي.

لقد حاولت مراراَ تعبير هذه الرؤيا المباركة التي قادتني إلى الغوص في كتب السيرة النبوية الطاهرة وكتب التراث المتعلقة برؤيا النبي وغير ذلك من علوم الدلالات والدراية بل التمست تفسيرها عند عدد غفير من العلماء الكبار في بلادنا وفي دول إسلامية أخرى 

في أكثر من مرة وصلت إلى حالة استثنائية رائعة استقر عليها فهمي ومفادها أنه: ربما ستتاح لي فرصة نادرة لأقدم عملاً سيسترعي الانتباه وسيصب في مصلحة المسلمين وأن ذلك العمل مرتبط بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أرسل إلي أتعابي مع سبطه سالف الذكر.

قد يتبادر لذهن القارئ أنني أتباهى بهذه الرؤيا.. وهذا صحيح تماماً.. فقد تحدثت عنها على صفحتي في الفيسبوك ومنذ سنوات عديدة، وكل من يعرفني، يعرف تأثيرها في حياتي الفكرية والسياسية إذ كثيرا ما ألهمتني ذلك الإحساس النادر بالسكينة والعزة… حتى لا أقول الشعور الغامر بالاصطفاء والاجتباء والوصال.

ثم هاجت نواكشوط وكل موريتانيا بعد أن نشر محمد الشيخ ولد محمد مخيطير نصا سخيفاً موجها لطبقة “المعلمين” وهو نص مكتظ بالتقول والاختزال والسوء ووصل إلى نتائج تخرج – حسب الراجح عند الفقهاء- صاحبها من الملة.

المدون الموريتاني محمد الشيخ ولد محمد مخيطير

خرج رئيس الدولة إلى الملأ وذكر الناس بأننا دولة إسلامية غير علمانية ثم توعد كاتب النص بأشد عقاب.. واندفع الكثيرون يطالبون برأس المتهم.

بكل صراحة ما حصل لولد مخيطير نتيجة منطقية لمن يعاين المتون دون التسلح بالأدوات العلمية المعهودة فيختلط عليه اليقيني بالمحتمل والضعيف بالراجح ثم يلوذ في حيرة وتأزم نحو كتابات أهل الزيغ فينزلق والعياذ بالله.

التصدي للفتوى من قبل الجاهل كان دوما وبالاً عليه وحسرة، ومرده استحالة الوصول إلى حالة الجزم واستخلاص الحكم حول أي أمر شرعي لكل من لم يصل إلى مكامن الدراية الكبرى التي تعرف فقهياً بمرتبة الاجتهاد.. ورغم ذلك فانني استغربت ساعتها ومازلت استغرب كيف فات على أهل العلم والمعرفة أهمية الرد الشافي على صاحب المقال وضرورة مقارعة الحجة بالحجة.

إن امتناعنا -أو عجزنا- عن الرد المقنع والمقبول لعقول الناس كافة – بمن فيهم غير المسلمين- يؤدي لا محالة إلى توطيد صورة سلبية ومؤسفة عنا كأمة مسلمة ؟

لقد كنت ولسنوات طويلة، ممن تكفلوا بتمثيل الشعوب المسلمة في دار الكفر، لذلك أعرف-ربما أكثر من غيري- ما يقال عنا في أصقاع شاسعة من هذا العالم الرحيب. وأقر بأنه يحز في نفسي كثيراً سماعهم يقولون بأننا أناس أجلاف وأهل عنف وطيش.. كيف لا وفيهم من أصبح يعتقد ويكتب صراحة ما مفاده أن الدين الإسلامي دين إرهابي يفرض الناس بالقسر على البقاء فيه، وان الأمة الإسلامية في عمومها وخصوصها غير قادرة على إنتاج المعرفة وغير قادرة حتى على المحاججة.

أعتقد أن هذه الكوة هي المدخل الذي تسربت منه الموجة الإلحادية العدمية التي أصبحت تتفاحش تحت باصرتنا بين شباب المسلمين في الانترنت، فقد درج أعداء الإسلام من المستشرقين وبعض السذج من المسلمين على الاستشهاد بمبالغات وتخرصات أشخاص من نوع ابن إسحاق.. الذي اعتبره سيدنا مالك ابن أنس “دجالا من الدجاجلة”، ورفض اعتماد أقواله والرواية عنه، وابن هشام الذي نسج من خياله الخصيب والطفاح الكثرة من الروايات والطبري وما أدرانا ما الطبري.. وغيرهم من أصحاب التواريخ غير المنطقية التي لا يتقبلها عاقل.. ولا أدل على تناقض مروياتهم من عدد بني قريظة (600 ربما 1000 وقيل 3000) ثم كيف أسكنوا في دار واحدة وكيف قتلوا بمؤشر الإنبات أي شعر العانة وحجم الخندق الذي رميت فيه جثثهم.

ولد مخيطير ليس أول من استشهد بالطبري حول مصير بني قريظة تحديداً ولا أظنه سيكون الأخير، وهو استشهاد مجحف ويؤدي إلى نتائج مبتسرة ومتسرعة تؤكد وقوع إبادة جماعية لهذه القبيلة العربية اللسان واليهودية الدين وكأن ما وقع “هولوكوست” حجازي يصلح – مع نزر قليل من سوء النية- للاستخدام والمجادلة بغية إضعاف الخصم المسلم وإرباكه وربما الإجهاز عليه.

الغريب في الأمر أن هذه الواقعة ليست بالضرورة كما يقول الطبري، بل لم تكن كما قال، بالقطع والجزم واليقين، فالبخاري ومسلم يؤكدان حدوث محاكمة طالت مقاتلة بني قريظة فقط دون غيرهم والمقصود بالمقاتلة هنا هم قياداتهم التي خانت عهد الأمة ودستور التحالف المدني ومن المعروف عند الإخباريين أن هذه المحاكمة حصلت طبقاً للشريعة اليهودية برئاسة سعد ابن معاذ.

لقد كانت محاكمة عادلة حتى بمعايير أوروبا في عصرنا الراهن. وتحصل مثيلاتها في جل دول العالم التي تعاقب بالإعدام -وحتى يوم الناس هذا- كل من تسول له نفسه حمل السلاح ضد الدولة وهي في حالة الحرب.

لقد نهج بعض كتاب السير منهجاً آخر، فمنهم من يرفض وجود القصة من أصلها وفرعها ويتحدث عن عملية إجلاء لم يقتل فيها أحد، وهذا ما ذهب إليه من أهل زماننا السعودي عبد الله ابن قرناس في كتابه الشهير سنة الأولين الذي يستدل فيه بأدلة كثيرة منها النقلي ومنها العقلي ولعل أكثرها طرافة نتائج الحفريات الضخمة التي قامت بها المملكة العربية السعودية أثناء توسعة الحرم المدني في عهد الملك فهد- رحمه الله- فحيث أن مساحة الحرم المدني الحالية تشتمل على كل رقعة المدينة المنورة خلال عهد النبوة .. فاستخلص من ذلك انه لو كان هناك قتل جماعي كما يزعم “الطبريون” لعثر عمال الحفر الذين وصلوا إلى أعماق بعيدة وعلى كل الرقعة المدنية على الخندق -أو المقبرة الجماعية- التي يزعم الطبري أن بني قريظة كوموا فيها كالجرذان.

وليس في الأمر عجب فقد عثر الباحثون – بالتنقيب وأحياناً بالصدفة- على مقابر جماعية ومنذ آلاف السنين في أماكن تروي الكتب التاريخية حدوث عمليات التصفية الجسدية المعروفة بالإبادة الجماعية فيها.

تبعاً لذلك وصل هذا الباحث إلى الجزم بأن مصير يهود بني قريظة كان هو نفس مصير جل يهود الحجاز ألا وهو الإجلاء الجماعي بموجب ضمانات الأمن.

في نفس السياق يستدل العالم الفلسطيني عدنان ابراهيم في رفضه لقصة المذبحة على حديث عائشة عن درع الرسول المرتهنة عند تاجر يهودي وهذا ما يثبت بقاء أفراد منهم في المدينة وضواحيها وحتى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي نفس السياق يسرد قصة المتسول اليهودي الذي أمر عمر الفاروق منحه الكفاف من بيت مال المسلمين وكلها أحاديث ثابتة في “الصحاح” والمرويات الموثوقة.

لقد ازدادت دهشتي أيضا حين حاولت التعرف على مصير بني قريظة من المصادر اليهودية وقد سبق عندي العلم ان الشريعة الموسوية تولي العناية الفائقة لجثث الأموات وتساوي بين جسم اليهودي الحي وجثة اليهودي الميت ولا أدل على ذلك من الصفقات التي أبرمتها دولة إسرائيل مع حزب الله لاستعادة جثمانين مقابل مئات الأسرى العرب الأحياء..وحسب نفس التقاليد نجد اليهود العرب وحتى بعد نزوحهم إلى الدولة الصهيونية يواصلون الاهتمام المفرط بمقابرهم في الدول العربية ويؤجرون لحراستها أشداء القوم ومن ألقى نظرة عجلى على مقابر اليهود من بغداد شرقاً وحتى الصويرة غرباً سيصعق من درجة الاهتمام وتكاليفه المرتفعة مالياً.

من المعروف أيضا أن اليهود، وبعد أن تمكنوا من التغلغل والسيطرة على دوائر النفوذ في كبريات دول العالم، أخذوا يطالبون بتعويضات جسيمة من كل الدول والأمم التي تعرضوا فيها للاضطهاد فأصواتهم ترتفع بالمطالبة بحقوقهم من ألمانيا والنمسا وسويسرا وفرنسا.. ويتبارى كتابهم ومؤرخوهم في تحديد خسائرهم خلال السبي البابلي ويدرسون سبل تكبيل العراق به وكيف يمكنهم طلب تعويضات من مصر عن الأضرار التي ألحقها بهم فرعونها الذي عاصر موسى الكليم عليه السلام.

بكل بساطة الذاكرة اليهودية متقدة وملتهبة ولا مكان للنسيان فيها.

ونقبت في الذاكرة اليهودية فوجدت أن بني قريظة ارتحلوا شمالا صوب سواد العراق واختلطوا فيه بيهود بابل وخلال الفتح تعرف العرب على بعضهم وأقروهم على أعرافهم وظلوا أهل ذمة محفوظة ٌحقوقهم وحتى خروجهم الجماعي من العراق في منتصف القرن المنصرم.

لم أجد في المصادر اليهودية دعوى واحدة تقول بحصول مذبحة في المدينة أو خيبر بل العكس تتواتر المصادر اليهودية على نفي الأمر وتتفق على أن ما حصل مجرد عمليات إجلاء مألوفة ومن بين المنحدرين من يهود الحجاز مشاهير من اليهود ومشاهير من المسلمين… منهم على سبيل المثال لا الحصر الشاعر العراقي الكبير أنور شاؤول القائل:

إن كنتُ من موسي قبستُ عقيدتي فأنا المُقيمُ بظل دين محمد

وسماحة الإسلام كانت موئلي وبلاغة القرآن كانت موردي

مانال من حبي لأمة أحمد كوني علي دين الكليم تعبدي

سأظل ذياك السموأل في الوفا أسَعدْتُ في بغداد أم لم أسعد

ومن بينهم أيضا العلامة العراقي الكبير المرحوم أحمد نسيم سوسة عضو مجمع اللغة العربية والذي رفض النزوح إلى إسرائيل ثم قادته بحوثه حول تاريخ اليهود العرب إلى دخول الإسلام وقد حسن إسلامه وألف عشرات الكتب الرصينة والموضوعية في المسألة اليهودية وفي القضية الفلسطينية وكان رحمه الله جامعة مكتملة وقد تتبع مسار يهود الحجاز في نزوحهم إلى العراق واليمن وبلاد افريقية ووصل إلى نتائج باهرة خصوصا بعد معاينته لكل التراث العبراني المتعلق بموضوع البحث.

وحسب مصادر يهود العراق فقد أناخت جمال بني قريظة في نواحي الحلة ،ومنهم من جاور قبر نبي الله ذي الكفل، ومنهم من استقر جنوباً، وأغلبهم يعتقد أن قبيلة القرايظة العراقية هم أحفاد بني قريظة ولعل بعض العراقيين المناوئين لدولة الرئيس نوري المالكي العلي لا يتردد في تذكير الناس بنسب آل العلي وانحدارهم من بيت العلي القرايظي اليهودي الذي أعطى للعرب مواهب موسيقية فذة تدعى :صالح وداود الكويتي.

شخصياً لا أجد أي حرج في تجنب ما ذهب إليه الطبري وأمثاله، فالطبري ليس من الصحابة.. وليس تابعياً.. وليس شاهداً فهو لم يعاصر تلك الفترة إطلاقاً والحقيقة التاريخية المتفق عليها تؤكد ان بدايات التدوين بدأت بعد قرن ونيف من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وتزامنت مع حركة الفتوحات أي في الزمن الذي كان العرب يعيشون فيه في حالة التوسع والتمدد ،وفيهم من كان يبحث عن مسوغات شرعية تبيح له القيام بما يريد من مخالفات. وهذا ما يعلل كثرة الوضاعين للأحاديث الملفقة والوقائع المزيفة وقد حاول العلماء التصدي للوضاعين وأكاذيبهم فابتدعوا علم طبقات الرجال وتقنيات غربلة السلاسل لكن الطبيعة الإنسانية تأبى الخضوع فتسربت إلى كثير من الكتب أحاديث وأقوال نسبت لنبي الرحمة مشكوك فيها ومازال الخلاف بين أجلاء العلماء محتدم في أكثر من مسألة فقهية أو تاريخية.

في نص ولد مخيطير غلط علمي آخر حيث وصل إلى أن المساواة بين البشر غير موجودة في الدين الإسلامي معتمدا على مقارنة متسرعة بين مآل سيد مكة أبي سفيان ابن حرب وعقيلته هند بنت عتبة وحال وحشي الذي استفاد-دون تبجيل- من العفو النبوي يوم الفتح .

ما فات عليه هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب صفات متعددة ومنها انه كان قائداً عسكرياً ومؤسساً لأمة الإسلام كتنظيم اجتماعي وسياسي ومن المعروف في علم السياسة وعبر كل العصور أن أي دولة حين تنتصر عسكرياً على دولة أخرى وتلحقها بحوزتها ،عليها أن تتجنب قلب المؤسسات الاجتماعية والسياسية بسرعة خوفاً من إراقة الدماء وهذا لا يتناقض مع فكرة المساواة القانونية بين الأفراد.

فمثلاً حين نادى المنادي في أهل مكة: “…من أغلق عليه باب بيته فهو آمن ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن..” تتضح المساواة وتظهر الحنكة السياسية في آن واحد وليس في ذلك تناقض البتة.

تتضح المساواة حيث دخول بيت أبي سفيان يؤدي إلى الأمن..

ودخول أي بيت آخر في كل مكة يؤدي إلى الأمن أيضا. وتظهر المهارة السياسية العظيمة في ذكر أبي سفيان دون غيره اعترافاً بمكانته كقائد للدولة المهزومة وفي ذلك ما فيه من تجنب حشره في الزاوية الذي لو وقع لقاد الناس إلى سيناريوهات انتحارية وشلالات دماء مجانية.

وبرهنةً على ما سلف لنمعن النظر في احتلال أمريكا لليابان ولنقارنه باحتلالها للعراق ففي الحالة الأولى نجد انه بعد جنوح اليابانيين للسلم أخذ هاري ترومان” بالمنهج الإسلامي الصحيح” واعترف بالمؤسسات القائمة وحفظ لإمبراطور اليابان كبرياءه الخاص وساعد ذلك في تسهيل نزع سلاح اليابان واقتلاع العنف “الكاميكازي” من جذوره وها هي شعوب اليابان تولى ظهرها لنزق “الساموراي” وتساهم بشكل ملموس في إحلال السلام في كل الكوكب الأرضي.

خلافا لذلك اندفع جورج بوش الابن كالثور الهائج في منهجية “صليبية” متجاهلاً المؤسسات القائمة فأمر بمطاردة قيادات العراق واجتث الجيش والأمن والحزب الحاكم وانجرف ينفذ أجندات انتقامية غير حصيفة البتة… والنتيجة كما هو جلي، انفراط عقد الدولة العراقية وتوطن الإرهاب لسواد العراق ودفع أمريكا نفسها باهظ الثمن من الدم والمال ثم انسحابها بتسرع وخيبة وها هي الحرب متواصلة، بل هاهي تفرز كيان داعش الغريب الذي يروع الناس… كل الناس وفي كل مكان.

لا يخفى على القارئ الموريتاني لنص ولد مخيطير أنه ينزع بين السطور إلى القول بأصول يهودية لفئة المعلمين وهو قول خرج من رحم المعاناة غير الشرعية وغير الأخلاقية التي يتجرعها هؤلاء القوم وهي المعاناة التي تشكل نقطة ألم وجداني تتحرك كالسكين في داخل الجرح النرجسي المتقيح عند أغلب شباب المعلمين .

ليست الأصول اليهودية في شرع الله أمراً مؤذياً أو مزعجاً فشرع الله يفرض المساواة بين المؤمنين بل يجمع النسابة العرب والفقهاء في تفضيل أتباع الديانات السماوية على أتباع الديانات الوثنية وهذا أمر مسلم به بين كل المسلمين.

من الناحية التاريخية والانتروبولوجية لم أجد دليلاً واحداً يؤكد هذا الأمر ولقد حاول علماء اليهود تحت رعاية فرنسا الاستعمارية دراسة الأمر بتمعن -ومنذ نهاية القرن التاسع عشر- ووصلوا إلى نتائج مناقضة ومن هؤلاء حاخام يهودي يدعى مردخاي ابو سرور وقد قطع الصحراء الكبرى باحثا عن بقايا البيع اليهودية التواتية التي دمرها محمد ابن عبد الكريم المغيلي سنة 1492 وتواصل مع قبائل طارقية وأخرى من شعب الحاوصا وعائلات قليلة من سونغاي أعالي نهر النيجر ووصل الى نتيجة قاطعة في شأن المعلمين الناطقين بالعربية والامازيغية ترفض أي ربط لهم بشعب إسرائيل.

وبعده انطلق عشرات علماء التاريخ والآثار لدراسة الأمر ووصلوا الى نتيجة مفادها أن سلطان فاس اعتبر المغيلي معتدياً على أهل الذمة وأنه استجلب جل اليهود باستثناء العائلات السالفة الذكر-وليس فيها معلم أو “أنهظ” واحد- للمغرب وتحديدا صوب ازمور وتارودانت وقرى الأطلس وظلوا على يهوديتهم وحتى الآن.

من الواضح ان المعلمين لا ينتمون لأصل واحد فمنهم العربي والزنجي والمهجن…

ومن الواضح أيضا أن معاناة المعلمين تابعة لازدراء المهن اليدوية في المجتمعات المتخلفة ففي ثقافتنا البدوية الغريبة يحتقر الناس الحلاق والخياط والجزار-رغم حاجتهم له- وبشكل أكثر فجاجة الحداد والصائغ والرسام وهذا شأن كل المجتمعات البدائية ويتميز المجتمع الموريتاني الناطق بالعربية عن العرب قاطبةً بتراتبيته الافريقية المبنية على أسطورة المهن الوراثية.

ولقد سبق واستفضت في هذا المبحث وحللت الدواعي النفسية لمحنة المعلمين في موريتانيا وافريقيا عموماً.

وعلى كل حال، لا ضير في التذكير بأن المعلم في التنظيمات القبلية الموريتانية كان له دور سياسي يشبه دور الحاجب لشيخ القبيلة، ومن المعروف ان الحاجب سواء تمت تسميته ” امعلم” او مدير ديوان أو رئيس بلاط ملكي مكروه بسبب مكانته ونفوذه وإلى حدود المقت في كل المجتمعات.

فحساد الملك وخصوم رئيس القبيلة من بني عمومته، أو منافسي شيخ الطريقة ومعارضيه، يسترخصون مهاجمة الحاجب الأعزل ويخصونه دون غيره بسهامهم وأحيانا بشكل مرضي هستيري.

إنه “سيندروم” أو متلازمة نفسية معروفة وقد استفاض أهل التاريخ في وصفها منذ الأزل وأسماها بعض أهل العراق “بالبرمكية” في إشارة واضحة لمحنة البرامكة الذين نالتهم سهام العرب والعجم بسبب نفوذهم عند الخليفة.

يعود الفضل لاهتمامي بمحنة المعلمين في موريتانيا إلى صديقي الفنان البلجيكي حمادي الهاشمي الذي ما إن أمعن النظر في رسومات ونقوشات المعلمين حتى استنتج أن أصحاب هذه الأعمال الرائعة يتشاركون أمراً أليماً ما.. ويريدون التعبير عنه بطرق فنية رائدة.

بعبارة أخرى لا يخفى على أي مهتم بالمسألة الجمالية أن المعلم حين ينكب مطرقاً في صبر وذوبان صوفي على معادنه لصياغة تحفة فنية ما يتقصد خلال عمله -المضني وضعيف المردود- الحصول على متعة الاستفراغ العجيبة التي تسمح له بنفث كل عقابيل الهوس الجماعي التي يتعرض لها في حياته اليومية.

لهذا السبب أميل إلى الاعتقاد بأن تعاطي الفنون، من نحت ورسم وصياغة، كان وعلى مدى قرون عديدة هو الطريق العلاجي الوحيد المتاح لهؤلاء القوم للبقاء على قيد الحياة،عبر ما يعرف في علم النفس الاكلينيكي بالتداوي بالفن، غير ان ظهور المدنية الحديثة أدى إلى تقلص تعاطي الفنون والصنائع الجميلة بين المعلمين وبذلك اختفى الدواء وبقي الداء.

وهكذا أصبح المعلم الشاب وقليل المراس وعديم المهارة الحرفية، الذي يعيش في نواكشوط ومثيلاتها، رهين وضعية نفسية صعبة لا يقوى على مكابدتها إلا صنديد نادر.

من هنا بدأت أعراض الانزعاج والألم تظهر على شباب المعلمين وبطبيعة الحال يتفاوت الناس في طرق تعبيرهم، ولقد كنت من بين قلة من المثقفين وأهل الرأي الذين قرروا دعم حراك المعلمين بغية توعية الناس حول هذا الخطب الكبير والفريد.

المعلم، رغم أنه ليس عرضة للرق والاستغلال المادي تبقى مشكلته عويصة جداً، لصعوبة تشخيصها، ولتعلق حلها بالغير وهي تتلخص في كيف سنستطيع إقناع الناس بالتوقف عن السخرية منه والامتناع عن إيذائه والنظر إليه باستعلاء!؟

خلال المحاضرات التي ألقيت في نوادي المعلمين وجدت أمامي المهندس وبجانبه الخياط… والصائغ وبجانبه الطبيب… والقانوني القدير وبقربه سائق الشاحنة …وأغلبهم لا يخفي ألمه ولقد نصحتهم بالجسارة والتعبير عن مكنونات أنفسهم بأمانة فمشكلة” الكاست الافريقي” هي مشكلة “المسكوت عنه” ولم أجرؤ على نصحهم بالعودة للفنون الجميلة رغم معرفتي الطبية بفاعليتها العلاجية خشية اتهامي بالسخرية منهم.

أغلبنا لا يعرف أن المعلم يتألم حين يهم بالمشي لأننا تلقائيا سنحدق في طرفه الأيسر..وسيتجهم في الصباح الباكر لأنه يعرف أننا لا نحب رؤيته في الصباح وسيحتقن في الزوال لأنه يعرف أننا نشبهه بغراب البين ونتطير منه في القيلولة.. وهلم جرا !

إن عنجهيتنا الرعناء وظلاميتنا وعدم اهتمامنا بالمسائل الجمالية… جعلهم جميعا بمثابة كائنات منتهكة في غرورها الذاتي !

أعلن ولد مخيطير توبته مما كتب بعد ساعات من نشره، لكن الدرك اقتاده للسجن، وبعد التحقيق معه أحيل للقضاء للبت في أمره.

أعلن توبته وهو بعد حر طليق، وظل عليها وحتى كتابة هذه الحروف، وهي توبة جلية واضحة وأول من شهد عليها وكيل الجمهورية والمدعي العام الذي اعترف أمام المحكمة أنه سلمه نسخة من المصحف الشريف وسمح له بحيازتها في زنزانته.

بعد اعتماد توبته وتواصل اعتقاله حاول أهله البحث عن شخص يقبل الترافع عنه، عله يساعده في تبليغ حجته، والتمسوا من عشيرتهم العون المادي لمواجهة هذه المحنة العائلية، وبطبيعة الحال تردد أغلب أفراد تلك العشيرة خوفاً من شبهة الحرمة الدينية، لكن العلامة اسلمو ولد سيد المصطف بكل مقامه العلمي وبما لديه من سلطة عشائرية -ورثها أبا عن جد- أفتى من سأله أنه لا حرمة في مساعدة التائب على توبته بل أعتبر “العصب” يلزم شرعيا من التزم به وتترتب عنه المواساة العائلية المعهودة في مثل هذه الحالات.

ذهب أهل مخيطير ومعهم أشخاص من العشيرة المذكورة وطلبوا من العميد محمدن ولد الشدو قبول توكيلهم ومن المعروف أن الأستاذ محمدن ولد الشدو من كبار المحامين والمثقفين في هذه البلاد وله معرفة طولى بالشرع وأحكامه وهو الرجل المناسب لمنازلة فقهية وفكرية بهذا المستوى .

وعدهم الأستاذ محمدن ولد الشدو بدراسة الملف والرد عليهم في أسبوع ولم يتعهد بشيء خلافا لما روجت الصحف المغرضة ، لكن في تلك الأثناء، هاجت في نواكشوط مجاميع غوغائية حشدت ضده وراح متطرفون جهلة يشهرون به وبأبنائه ووقف السلك الوطني للمحامين متفرجاً.

امتنعت أجهزة الأمن عن توقيف الغلاة والجهلة.

وامتنع القضاء عن النظر في تهديدهم لرجل القانون وامتنعت الأحزاب السياسية عن التعليق على هذا الأمر.

بكل صراحة وجد العميد ولد الشدو نفسه وحيداً في مواجهة الثيران فحصل عنده اليقين أن أي عمل قانوني أو فقهي في هذه الأجواء سيكون بلا طائل، فجاء رده على طلب أهل مخيطير سالف الذكر بالاعتذار.

هنا تجدر الإشارة إلى أن أعداداً كبيرة من المحامين قررت رفع دعوى مدنية ضد المتهم.. ولقد استغربت وما زلت استغرب وسأستغرب دائماَ وأبداَ كيف قبل القضاء بدخولهم رحاب المحاكمة كممثل لطرف مدني في هذه القضية؟

مرد استغرابي يعود وبكل بساطة ووضوح إلى القانون الموريتاني نفسه، الذي يجعل فتح الدعوى في المسائل الدينية من اختصاص السلطة وحدها، بحكم قوله بإسلامية الدولة وهو أمر نابع من صميم الفقه الإسلامي الحنيف الذي يفرق بين فقه دار الكفر وفقه دار الإسلام.

في دار الكفر، وهو مفهوم ينسحب على الدول التي لا يدين اغلب سكانها بالإسلام كفرنسا وربما الدول العلمانية كتركيا أو حتى الدول “المدنية” كمصر التي تعلن صراحة وقوفها بالحياد أمام كل الأديان، في هذه الدول يتعين على كل مسلم قادر رد أي عدوان على دين الله بالطرق الشرعية.

في دار الإسلام أي الدول غير المحايدة والتي تسن قوانينها من الشريعة الإسلامية يتوجب على “السلطان” وحده معاينة هذه المسائل وهو المسئول دون غيره عن إقامة الحدود وهو الممثل الوحيد للأمة الإسلامية وغير ذلك معصية واضحة لما فيه من مزاحمة لأهل الأمر قد تؤدي لخلط الحابل بالنابل 

هنا قد يعتقد القارئ المتحيز ان السلطان عندي في هذه المسألة تعني شخص محمد ولد عبد العزيز، وقد يلمس في ذلك “لحلحةً” يستهجنها، لذلك أنبهه إلى أن السلطان بالمعني الحديث عند جمهور الفقهاء هو الدولة بمجموعها، أي المؤسسات الحاكمة، وفي هذه الحالة هو ممثل النيابة التي كلفها القانون بتمثيل المجتمع الموريتاني المسلم كوحدة اجتماعية مترابطة.

قد يعتقد معترض أنني أروم مصادرة حق الناس في التعبير عن رأي لا يوافقني، وهذا غير صحيح البتة. إذ من حق كل الناس أن يعبروا عن آرائهم بحرية في الصحف والقنوات ولا جدال في ذلك. لكن ساحات المحاكم تضبطها قوانين مكتوبة وواضحة، وتبعاً لذلك لا يجوز الترافع أمامها إلا بصفة واضحة يقبلها القانون، وهنا تجدر الإشارة إلى أن قوانين دولة متعددة الأديان كمصر، تقبل بطبيعتها الحسبة التي تبيح لكل شخص حق مقاضاة من يتهم بازدراء الأديان المعترف بها في تلك البلاد. لكن مصر ليست موريتانيا التي لا تشتمل قوانينها على هذا الأمر، بل تتوقف صلاحيات الغير فيها في مثل هذه المسائل عند حق تنبيه الشرطة والقضاء الواقف على حدوث هذا الصنف من المناكر 

كم كان مؤسفاً هو تغاضى قضاة الدرجة الأولى والثانية عن هذا الخلل ورضوخهم لإلحاح الطرف المدني “المزعوم” وعدم مبالاتهم برأي النيابة العامة، التي اعتبرت تمكين أشخاص طبيعيين من المجادلة -غير المؤسسة قانوناً- بمثابة خرق سافر ومجاني لضمانة رئيسية من ضمانات العدل في القانون الموريتاني وفي ثنايا ذلك ما فيه من منازعةً سافرة لولاة الأمر على صلاحياتهم القانونية والشرعية .

لمتابعة قراءة الجزء الثاني من التدوينة اضغط هنا

كاتب الندوينة: محمد ولد أمين

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version