بعد كتاب تحدثت فيه عن مسارها العاطفي والثقافي، صدر مؤخرا للكاتبة سعيدة منعيم، عن دار النشر مرسم، رواية جديدة باللغة الفرنسية تحت عنوان «هن». سعيدة منعيم من مواليد 1957 بالدار البيضاء، في السنة الأولى أصيبت بالشلل، التحقت بوالدها، الذي يشتغل كعامل بناء بباريس، قصد التداوي، لكن دون جدوى، انخرطت في جمعيات فرنسية تعنى بتحسين وضعية أبناء المهاجرين وعملت بها لسنين طويلة.
في المقهى كان لقاؤنا
تدور أحداث الرواية الأخيرة لسعيدة منعيم بمدينة أﮔادير. تصادف الراوية التي تحمل اسم سعيدة فتاة في مقتبل العمر اسمها نادية بمقهى فيندوم على الشاطئ، فتنمو بينهما علاقة صداقة، تتكرر اللقاءات في المقهى المذكور وتبدأ الفتاة الشابة مع مرور الوقت تروي قصتها للراوية، لتظهر شخصيات جديدة من محيط نادية الصغير: «عندما استدرت انتبهت إلى أن التي كانت تحدثني فتاة نظرتها الفضولية الصريحة تثير الاهتمام. وأنا أنظر إلى وجهها نسيت أمر المكالمة البئيسة التي أنهيتها للتو».
وهكذا نتعرف على أسرتها الصغيرة. الأب تاجر كبير وذو نفوذ، لكنه متسلط وزَير نساء، سيصاب بعد ذلك بداء فقدان المناعة، ويرحل إلى الدار الأخرى. الأم تنحدر من مدينة فاس، تسوقها الأقدار إلى مدينة أﮔادير، تعيش شبه منفية في المنزل تحت رحمة زوج قاس، سكير ومتعجرف: «تعيش أمي حياتها ببساطة دون مشاكل ودون هدف. تعطي إحساسا أنها لا تهتم إلا بصورتها و بصورة منزلها». تموت المسكينة هي الأخرى بعد إصابتها بالداء اللعين بعد أن تقضي أيامها الأخيرة معزولة في مزرعة للأسرة بالضواحي.
كفاح من أجل النساء العازبات
يتزوج الوالد دون عقد رسمي من فتاة كانت تعيش مع أهلها بضواحي المدينة، تنجب منه ولدا لكنه يبقى غير مسجل في السجلات الرسمية، وبالتالي لا يتمكن من ولوج حجرات الدرس. تأخذ نادية على عاتقها مهمة مساعدته للحصول على اعتراف رسمي ببنوته، وهي مناسبة للقارئ للتعرف على كفاح نسوة متميزات كمحجوبة ادبوش وعائشة الشنة، حيث تأخذنا الراوية إلى عالم نساء عازبات عشن حياة مليئة بالمعاناة وجميع ألوان القهر. جاءت هذه الرواية كتكريم لكل النساء اللواتي يكافحن من أجل غد أفضل.
– أغلب شخصيات روايتك الأخيرة «هن» من النساء: الراوية سعيدة، الشابة نادية، الخالة الرهيبة خديجة، عائشة الشنة، محجوبة أدبوش… أولا، لماذا هذا الاختيار؟
– النساء في المغرب ألوان وأشكال. الحديث ليس عن مرأة مغربية واحدة، بل عن نساء، عن مرأة بصيغة الجمع. هن أمهات، هن كل ما تتطلب الحداثة منهن، كل ما صنع التاريخ منه، كل ما تستوجب الإهانة من طاقة وردود. ما يميزهن، حسب رأيي، ليس فقط هذه الضراوة في التصدي للظلم وما يتصل به، بل أيضا هذا الإصرار لبلوغ غاياتهن، بكل الوسائل المتاحة، الموروثة من الأسلاف والمأخوذة مما تقدمه الحداثة.
بصفة تكاد تكون عامة، هن دقيقات، قويات، ذكيات، مناضلات، لاعبات، متطوعات، في حالات نادرة، مغيبات، خاضعات أو حتى ضحايا. ضحايا ليس فقط للعوائد البائدة للوسط الذي يعشن فيه، للسلطة الذكورية، سلطة الزوج، الأخ الأكبر أو الصهر، لكن أيضا –وهذه مفارقة عجيبة!– لمثيلاتهن من النساء: أم الزوج، أخت الزوج… إلخ. هذه بعض الإكراهات التقليدية التي تواجهها المرأة.
اليوم، تواجه المرأة المغربية إكراهات جديدة، مصدرها الليبرالية المتوحشة التي عمت بها البلوى. وهي تواجه مصيرها بجرأة وتبصر، متحديةً موروثا ثقيلا، متلونا، غامضا ومرهقا. وهكذا، فالفتيات، والنساء (المتزوجات، الأمهات، العازبات، المطلقات، سواء كن معيلات لأسرة أو لا)، يعملن بقوة وروية من أجل إثبات ذواتهن، مجابهة الإكراهات المطروحة عليهن، الحفاظ على كرامتهن، إن لم يكن، بكل بساطة، من أجل ضمان البقاء. يقمن بالدور الذي بات منوطا بهن من الآن وصاعدا، كل واحدة منهن بطريقتها الخاصة، المختلفة عن الأخرى. وقد جاء اختياري بالتحديد لإبراز هذا «الاختلاف» وإظهار هذا «التعدد».
– تُشيرين في الكتاب (إن كنت قد فهمت كلامك جيدا) بأن أﮔادير –حيث تدور أحداث الرواية– هي المدينة التي تكثر فيها ظاهرة النساء العازبات. ما هي الوضعية الراهنة لهذه الشريحة من النساء في عموم البلد، وفي منطقة سوس على وجه الخصوص؟
قلتُ بأن الظاهرة تمس كل مناطق ومدن البلد، ولم أشِر بالتحديد لمدينة أﮔادير. الواقع أن الدار البيضاء هي التي تضم النسبة الأكبر منهن، حسب الإحصائيات المتوفرة. تجدر الإشارة إلى أن العزوبة، بالنسبة للكثيرات، ليست خيارَ حياة، بل هي إكراه جديد يصعب تفاديه. استنادا إلى الأرقام الرسمية للمفوضية السامية للتخطيط برسم سنة 2006، فإن 6550332 من الشباب (إناثا وذكورا) من الشريحة التي تتفاوت أعمارها بين (15 و29 عاما) هم عزاب. إذا اعتبرنا فقط الشريحة العمرية (25-29)، فعدد العزاب يصل إلى 1350000، 68.7% بالنسبة للذكور و40.7% بالنسبة للإناث. 59،1 ٪ من المدن و47.5% من القرى.
وقد تم تسجيل أكبر نسبة في الدار البيضاء الكبرى: 10 نقاط فوق المعدل الوطني، أي 63.1% من العزاب: 78% بالنسبة للذكور و49% بالنسبة للإناث.
حسب مقال لأحمد المتمسك (باحث في علم الاجتماع)، نشر في صحيفة «أجوردوي لوماروك»، بتاريخ 12.02.2017، فإن ظاهرة العزوبة بالمغرب، بالرغم من خطورتها، هي مستقرة، بل آخذة في التراجع. تشهد على هذا إحصائيات المفوضية السامية للتخطيط (2014 و2016).
دائما، حسب أحمد المتمسك، فإن العزوبة هي أكثر حدة لدى الذكور منه لدى الإناث. بالنسبة للشريحة العمرية (20-24 عاما)، فإن نسبة 53% تخص الإناث و92.6% تخص الذكور. وهذا يُفَسر أيضا بطول مدة الدراسة والدخول المتأخر في الحياة العملية.
– بعد رواية أولى عن مسارك العاطفي والثقافي، اخترت في هذا الكتيب الجديد تقديم نوع من التكريم للنساء المكافحات بشكل يومي ضد المَهانة (اﻠﺤﮔرة). ما هي رسالتك لهن، ولنساء المغرب عموماً؟
بالفعل، النضال ضد المهانة وأشياء أخرى، هو نضال يومي بالنسبة لهن، يتطلب منهن كثيرا من الوقت والجهد، لكن قوتهن كبيرة، وطاقتهن لا حدود لها، وهذا شيء يبهرني. أحب التذكير بعزيمة المرأة المغربية وبجسارتها. أتيحت لي الفرصة لمعاينة هجرتها، تأقلمها مع عالم ليس عالمها، دون انحناء. الآن، أراها وهي تقاوم بصبر، في بلدها الذي يشهد تحولات كبيرة، دون أن تتخلى عن خصوصيتها. رسالتي إليهن: شكرا! شكرا على شجاعتهن، صبرهن، عفويتهن وفرحهن. هن القدوة والمرجع بالنسبة للنساء جميعا.
حاورها حمدي الحيرش
كاتب التدوينة: حمدي الحيرش