لا يخفى على المغاربة أنّ كلمة “كرامة” لم تعد تستعمل في خطب الجمعة، ولا في الأعياد، ولا في المدارس ولا في الإدارة، بل حتى في الحالات النادرة التي يشار إليها، ولا يقصد منها سوى إقناع المتلقي المغربي أنّ كرامته محفوظة في الكتاب والسنة، ولا داعي للاجتهاد في هذا الباب، مادام أنّ الله أخبرنا بقيمة الكرامة البشرية من فوق سبع سماوات، وكذلك فعل الدستور وتفعل القوانين واللوائح الداخلية والخارجية. لكن في المقابل هناك استعمال مفرط من السياسيين كلمة “الكرامة”، سواء في خطبهم أو برامجهم.
وسياسياً، يعدّ مفهوم الكرامة البشرية من المفاهيم القليلة التي توّحد اليمين واليسار، والإسلامي والعلماني، والمؤمن والكافر، لكونها تمثل، في نظرهم جميعاً، جوهر الحقوق والحريات الأساسية اللصيقة بالإنسان. إلا أنّ نتائج هذا الاتحاد تختلف من مجتمع إلى آخر، حسب طبيعة النظام السياسي الذي يقود المجتمع والدولة، وهي بذلك لا توّحد الحكام والمحكومين إلا في مجتمع ونظام ديمقراطيين. وإذا كان عبء الدفاع عن تلك الكرامة يقع على الفرد نفسه أولاً، ثم على الدولة ثانياً، فإنّ تخفيض فاتورة الاستبداد غالباً ما يمرّ عبر تجميل التنازل عنها في عيون الأفراد والجماعات.
أصبح المجتمع المغربي متسامحاً مع مشاهد الإهانة، إلى درجة مقلقة، ولا يمكن القول إنّ هذا التطبيع المفتعل لا يحمل بصمات الفاعل العمومي، باختلاف درجاته ومقامه. ولم يجد هذا الأخير، يوماً، حرجاً في سحب العجزة والأرامل والأطفال والأشخاص الموجودين في وضعية إعاقة وضحايا الكوارث الطبيعية والسياسات العمومية، إلى حفلات الجود والكرم التي توّزع فيها مؤونة يوم أو يومين، أمام عدسة المصورين، وتصفيقات الجماهير الغفيرة.
أصبحت لدينا، تحت ضغط الإلحاح، سيكولوجية المتسوّل، منذ أصبحنا نتسوّل كل شيء. فالمرشح والحزب يتسوّلان الأصوات، والناخب يتسوّل المال والزردة، والموظف يتسوّل الترقية، والجمعية تتسوّل الدعم، والطالب يتسوّل النقطة، وجماهير الكرة تتسوّل تذاكر الحافلات والمباريات، وأبطال الوطن يتسوّلون المأذونيات ورخص النقل، وضحاياه يتسوّلون تكاليف العلاج والتطبيب، وحتى زعيم الحزب الفائز في الانتخابات يتسوّل المسؤولية.
لقد تحولت سياسات عمومية، كان مفترضا لها أن تُخرج المواطن من هشاشته إلى وضعٍ أكثر أمنا واستقرارا، حفاظا على كرامته، إلى برامج للتسول الأفقي والعمودي، وأنشأت لنا مؤسسات ذات بنايات شاسعة وأطر عليا وسيارات فارهة، مهمتهم، جمع التبرعات وإعادة توزيعها على الفقراء، بعد اقتطاع أجورهم وتعويضاتهم ومصاريف التسيير والاشتغال، من دون اعتبار لأدنى معايير الاستحقاق أو الحكامة الجيدة، بل يبقى الهدف الأساسي لوجودها إشاعة الإتكالية والتسوّل، انطلاقا من علاقات الزبونية والمحسوبية التي ينسجها حرُّاس هذه المنظومة ووكلاؤها.
وأصبحت المناسبات الدينية فرصاً لجمع التبرعات لكل ذي نقص واحتياج، تحت مختلف الشعارات، ومن أجل كل المآرب، حيث يوزع الزعيم، أكباش العيد، ويوزع الفاعل الجمعوي ملابس العيد، وتعطي الإدارة زيتاً وسكراً وشاياً أخضر لتحضير حلوى العيد.
وأصبحت شوارعنا معارض للعاهات المستديمة، واحتساء القهوة لا يتم بدون قراءة وريقات صغيرة توّزعها نساء من مختلف الأعمار، والملفات الطبية التي يصطحبها ذوي الأمراض المزمنة والعمليات الجراحية المؤجلة، وموسم الصيف تحول إلى موسم شحاذة بالمناطق الشاطئية، ومواقف السيارات بمثابة عقارات مخصصة للتسول المقنن.
كل هذا لا علاقة له بقيمة التضامن التي تعني شيئا آخر، ولها آليات ومؤسسات أخرى، كما أنّ التضامن الفعلي هو ما تنص عليه الدساتير والقوانين، ابتداءً بأداء الضرائب وانتهاءً بمناهضة الريع والامتيازات الخيالية لخدام الدولة، كما أنّه لا يبخس المجهودات التي يقوم بها بعض الشباب على شبكات التواصل الاجتماعي للتعريف ببعض الحالات الاجتماعية ونصرتها ودعمها، فهؤلاء لا يعرف عنهم استغلالاً سياسياً أو انتخابياً لتلك الحالات.
نجحت بروباغندا مؤسسات التسوّل وروادها في إقناعنا بأنّ الحقوق يمكن أن تؤخد بالتي هي أحسن، وأنّ جود الآخرين وكرمهم أكثر نجاعة من تطبيق العدالة الاجتماعية، والاحتجاج من أجل الحق في الحد الأدنى من الكرامة مجازفة غير آمنة، وأنّ مشكلات الصحة والشغل والفقر يمكن أن نتغلب عليها بمجرّد عرض عاهاتنا وعوزنا على قارعة الطريق، أو تركها تتجوّل بين طاولات المقاهي، أو مقايضتها بالبطائق الانتخابية.
لهذا كله، كانت الحقيبة المدرسية التي وزعتها عمالة إقليم الخميسات، عنواناً لآخر فصول تلك الحملة التي لم تعد تطيق انتظارنا، حتى نكبر ونتعلم الشحاذة بمجهودنا الشخصي، بل حاولت إدماجها في صلب العملية التعليمية، وقبل أن نتلقى التربية والعلوم، علينا الإقرار بأننا متسولون، لا يجب أن تحتوي حقائبهم على أدوات الكرامة.
كاتب التدوينة: توفيق سلمون