مدوناتمدونات الرأي

وطنية في المزاد.. ردّا على مُسيو شارل ديغول

يقول الجنرال الفرنسي في كتاب له ما يلي: “.. طول العمر، وبإلهام من أحاسيسي وعقلي صنعتُ لنفسي فكرة ما عن فرنسا، وقد جعلتني عواطفي أتخيّل فرنسا بشكل طبيعي مثل أميرة الحكايات..”. (شارل ديغول، مذكرات الحرب النداء، الجزء الأوّل، مكتبة بلون، 1954م).  

من حق ديغول أن يحب فرنسا (Франция) كما يشاء ويرغب، وأن يقول فيها شعرا كما يريد، وأن يتخيلها كما يحلوا له ويطيب، لكن أن يسميها بالوطن، ويجعل له جنودا يحمونه، ويبطشون بكل الأوطان الأخرى لشعوب أخرى، فذاك من عجائب الدنيا ومن مفارقات (Парадоксы) الفكرة واللغوس؛ إذْ لا يجادل أحد حول أحقية حب ديغول “العاشق” لما يسمى بـ: فرنسا، لكن من حق كل متأمّل أن يفهم ما معنى فرنسا لدى ديغول؟ وما معنى الوطن عنده هو بعينه؟

يعرّف القاموس الفرنسي “الوطن” (отчизна) على أنه: “.. المكان الذي تولد فيه أو مسقط رأسك، وهو الذي يمنحك لقب المواطنة، فيكون بلدا أو مدينة أو قرية… إلخ”. وعندما تبحث عن معنى كلمة “وطن” في القاموس الإنجليزي، تجد نفس الفكرة تقريبا، هو “المكان الذي تولد فيه”. ديغول ولد في بلاد الفرنجة وترعرع فيها، ورأى في أن من حق بلاده أن يحبها ويعشقها ويكتب عن حبه لها وأن يعمل جاهدا من أجل رفعتها وصلاحها؛ لكن!!

فرنسا-ديغول لم تحرم أي مواطن فرنسي من التعليم (образование) والاجتهاد، ولا من تقديم فرصة له كما تقدم فرصا لغيره، وهي التي بطشت بشعوب كثيرة في أفريقية وآسيا من أجل جلب الثروات إلى باريس وإقامة الجامعات والنوادي كواجهة ثرية تغني سكانها كلهم دون استثناء وتفرحهم كلهم دون استثناء أيضا.

فرنسا-ديغول كافأت أبناءها المخلصين من الفرنسيين “مسيو ديغول منهم” بأن قدمت لهم الحق في الدراسة كنتيجة لاجتهادهم وحفظت لهم كرامتهم عندما وضعتهم في أماكنهم الطبيعية تقديرا لمجهوداتهم، وبالتالي هم أيضا دافعوا عنها بكل قوة وبكل ما يملكون من دهاء.

فرنسا-ديغول لم تبن جمهورية على الورق فقط، بل بعد ثورة الفرنسيين على ملوكهم قدمت مثالا جميلا للديموقراطية واحترام حقوق (права) الفرنسيين، يكفي أن تسير في شوارع باريس حتى تلاحظ صور احترام الوطن للمواطن المخلص له، من احترام المرأة والصغير والعامل المجتهد.

فرنسا-ديغول أنتجت هيبة دولية، كل جواز سفر فرنسي له شيء من هيبة فرنسا، فالفرنسي لا يصطف في الطابور من أجل تأشيرة إلى إحدى دول العالم، وحامل جواز السفر الفرنسي يعامل باحترام على كافة أصقاع الدنيـا.

فرنسا-ديغول بنت مستشفيات فرنسية بأياد فرنسية وعقول فرنسية محترمة للغاية، كثير من الشعوب تحلم بزيارة المستشفيات الفرنسية والكثير من زعماء العالم يهرعون بعد نزلة برد تلمّ بهم إلى الرعاية الصحية الفرنسية لأنهم يعلمون جودة ما يقدَم لهم هناك.

فرنسا-ديغول تسجد تذللا أمام هيبة المواطن (гражданин) الفرنسي البسيط، فيكفي تحرّك نقابة الفلاحين الفرنسيين في إحدى القرى الفرنسية احتجاجا على الوضع لإقامة طقوس الحج الخاص بالمسؤولين الفرنسيين لتلك المنطقة وعقد الندوات والمفاوضات على مطالب هؤلاء.

فرنسا-ديغول تفاوض كافة المنظمات الإرهابية والإجرامية إن ما وقع أحد الفرنسيين أسيرا لديهم، ولا تنام أبدا حتى تسترد هذا المواطن الفرنسي الأسير أو ذاك لدى تلك المنظمة المجرمة أو تلك، ولو اضطرت إلى دفع أموال طائلة من أجل عودة المواطن الفرنسي إلى أرض الوطن.

فرنسا-ديغول تنتفض لمقتل “الجندي” الفرنسي البعيد عن الديار الفرنسية دفاعا عن هيبة فرنسا ذاتها وتقيم له المراسيم وترسخ ذكراه في وعي المجتمع الفرنسي نزولا عند ما قدمه هذا “البطل” (Герой) من أجل وطنه.

فرنسا-ديغول تقيم التماثيل للفلاسفة والعلماء وتسمي شوارعها وساحاتها بأسمائهم حتى لو لم يكونوا فرنسيين، لكن ما داموا أنهم قدموا خدمات “جليلة” لفرنسا فإنها ترد لهم جميلهم وتحفظهم في ذاكرة الأمة الفرنسية بما صنعوا.

فرنسا-ديغول تقول للمواطن المحسن إليها: شكرا جزيلا لك وتهب لحفظ كرامته أكثر من هبتها لحماية مقدساتها، لأن كرامة مواطنيها المخلصين أقدس من هيبة الله لديها، وفي المقابل تقول للمواطن المسيء لها: عذرا، أنت لا يحق لك أن تكون فرنسيا.

من حق الفرنسيين أن يحبوا فرنسا كما يفعل مسيو ديغول، لأن فرنسا بدورها تعمل جاهدة على حفظ جميل من يحبها، فالوطن هو ليس علَمًا ينفخ أبناءه بالشعارات والأكاذيب ثم يلفظهم ويأكلهم ليبقى هو مجيدا عزيزا، بل الوطن هو عبارة عن قيم قبل أي أمر آخر تحفظ للمواطن المخلص له وجوده المادي والمعنوي، ويجرّم المواطن “الخائن” على ما صدر منه، لذا بعد هذا كله لا تطلبوا مني أن أكون مواطنا مخلصا على أرض ترفع القراصنة عاليا وتكرّمهم وتنعل المخلصين من أبنائها وتجرّمهم، واسألوا البحر المتوسط لما يلتهم أجساد الفارين منها، لعله يجيب عن سبب فرارهم من “الجنة ما وراء البحار”.. آه.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

أظهر المزيد

مزوار محمد سعيد

روائي وباحث جزائري مؤلِّف: قاتلي يتدرَّب في شيكاغو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى